ما زالت حكاية فرار الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي تشغل التونسيين، ذاك انهم في أحسن الأحوال لم يتوقعوا ان يحصل بالسرعة التي جرى فيها، أما في أسوئها فقد انصبت آمالهم على انتزاع التزام منه بعدم الترشح للانتخابات العام 2014. «ثمة خيانة تعرض لها الرجل»، هذه العبارة تلوكها ألسن كثيرة، ويرجحها سياسيون وحزبيون، كما أكدها ل «الحياة» قيادي جديد قال إن رئيس الحكومة السابق محمد الغنوشي رواها له. وأضاف ان بن علي وفي اليوم الأخير له في تونس، أي في 14 كانون الثاني (يناير) الفائت لم يكن في وارد المغادرة، وأن مسؤول أمنه الجنرال علي السرياطي المحتجز اليوم في سجن، طلب منه المغادرة لأيام قليلة ريثما تهدأ النفوس، ويعود بعدها الى تونس وقد تم تثبيت الأمن وإعادة المتظاهرين الى بيوتهم. ورافق السرياطي بن علي الى باب الطائرة، واطمأن الى مغادرته، ثم عاد الى القصر لتنفيذ خطة تقضي باستلامه السلطة بعد مغادرة الرئيس، عبر إحداث فراغ دستوري يتحقق له من خلال التخلص من رئيس الحكومة محمد الغنوشي، ورئيس مجلس النواب، رئيس الدولة الموقت اليوم، فؤاد المبزع. اما مَن أحبط الخطة فقد كان الجيش الذي تنبه الى نية السرياطي فاعتقله في اليوم ذاته الذي غادر فيه بن علي. هذه المعلومات قد تتولى سبر بعض الغموض الذي يشوب الفرار السريع للرئيس المخلوع، كما ان حكاية الثورة في تونس يشوبها نقص أكيد، يتعلق بقرار المغادرة الذي اتخذه بن علي، وهو ما تتولى مخيلات كثيرة هنا حبكه على نحو يساعد التونسيين على الفهم. فالقرار كان لحظة نجاح استثنائي وغير متوقع، ما زالت ترتسم علاماته على وجوه الجميع هنا. «14 جانفييه» التونسي لم يكن الموعد المتوقع لنجاح الثورة، كما ان الوقت الذي اكتُسب بفعل «خلل ما في الأجهزة الأمنية»، وظفه التونسيون في البحث عن أنفسهم بعد 23 سنة من الصمت. فاستيقظت كل الحكايات دفعة واحدة، لتؤشر الى ان ملايين المواطنين كانوا تحت وطأة ذلك الصمت. ف «الطرابلسية» مثلاً، وهي الكلمة التي يقصد بها التونسيون عائلة زوجة بن علي، ليلى الطرابلسي، كانوا شركاء لكل تونسي في عيشه وعمله وعلمه وعائلته. والشرطة عدو المواطن بالمعنى اليومي، اذ على كل تونسي ان يدفع إتاوة يومية لينجو من تسلطها على الرزق القليل الذي أتاحه «الطرابلسية». يكتسب هذا الكلام صدقية من تكرار سماعه من كل تونسي، حتى أولئك الذين لم تربطهم خصومة مباشرة مع النظام. ثم ان كثيراً منه موثق ومثبت بصور ووثائق يحملها أصحابها، وقد قرر كثيرون تقديمها الى المحاكم. فثروة بن علي و «الطرابلسية» ما زال جزء كبير منها في تونس، لا سيما الأصول الثابتة، وآلاف من المتضررين يطمحون الى أحكام قضائية تعوضهم بعض الخسائر. لكن الأهم في الخسائر التي خلّفها النظام السابق، يصعب تعويضه. فسائق التاكسي، وهو شاب جامعي لم يتجاوز عمره ثلاثين سنة قال ان جيله شارك في الثورة من أجل أشقائه الصغار، إذ ان العمر فاته ولم يعد بإمكانه تعديل مسار حياته بعدما أمضى ثلاث سنوات بطالة وثلاثاً أخرى في قيادة سيارة تاكسي مُستأجرة. وهذه السنوات أنسته اللغة الإنكليزية التي كان درس آدابها. يملأ التونسيون الفجوة الداخلية التي خلّفها عيشهم في نظام بن علي، بحكايات عن عائلة الرئيس وعن فراره، والشجاعة المفاجئة التي أشاعتها الثورة في نفوس الجميع. وإذا كان الجيش «منقذ تونس» كما يكاد أن يُجمع التونسيون، فالشرطة السياسية هي «شيطانها» أيضاً كما يكادون أن يُجمعوا. وقرار حل هذا الجهاز الذي اتخذته الحكومة أول من أمس، احتفل به كثيرون على جادة الحبيب بورقيبة في وسط العاصمة، هناك حيث وقف عادل، الناشط في حزب العمال الشيوعي التونسي، وقال: «عمري الآن 62 سنة أمضيت 30 منها مضطهداً تحت حكم بورقيبة، و23 مطارداً تحت حكم بن علي... ولكن، لا بأس عليّ».