يستيقظ أهالي حي شارع همدر في الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت وينامون على أصوات صهاريج المياه، حيث يضطر قاطنوه كما كل الأحياء المجاورة في المنطقة إلى شراء المياه من الموزّعين في ظل انقطاع مياه الدولة طوال فصل الصيف وحتى وقت متأخّر من فصل الخريف. وهذه الأزمة ليست جديدة، إذ اعتاد عليها سكان معظم مناطق بيروت منذ سنوات عدة، «لكن في الماضي كانت الناس تنتفض، تتظاهر، تطالب بحقها، أمّا اليوم فقد تخدّرت ورضخت في ظل تفاقم الأزمات الاجتماعية وإهمال الدولة وغيابها»، يقول أبو نديم، أحد سكان الحي وهو جالس يصلّح مضخة المياه الخاصة بمنزله. ويضيف مستنكراً: «هذه سادس مضخة أغيّرها في السنتين الأخيرتين. يجلبون لنا مياهاً لا يعلم سوى الله مصدرها. مياه مالحة وملوّثة وعبارة عن رمل وحصى وكلس. كل الأواني والقساطل الممدة في المنزل أتلفها الكلس والصدأ. وإذا أردنا أن نستبدل البائع، فقد تقع مشكلات لها أول وليس لها آخر». ويقسّم البائعون المحتكرون بيع المياه في المنطقة الأحياء بين بعضهم بعضاً. فكل حي تابع لبائع، ومن غير المسموح لأحدهم أن يتعدّى على حي الآخر. ويقول أبو نديم: «ليس من حقنا أن نقرر من أين نريد أن نشتري مياهنا وليس مسموحاً لنا أن نتفق مع بائع آخر. اتصلت مرة ببائع قالوا لي إنه يبيع مياهاً حلوة، وطلبت منه أن يملأ لي الخزان، لكن المفاجأة أن البائع المُفرز لحينا هدده بأنه سيرسل شباناً مسلحين إلى مدخل الحي في حال فكّر أن يدخله». «مافيات المياه سيف مسلّط على سكان بيروت في ظل غياب تام للدولة وتغاضٍ مقصود من قبلها، إضافة إلى تواطئ بين أصحاب شبكة مزوّدي المياه غير الشرعية وموظفين في مؤسسات الدولة المسؤولة عن تأمين المياه لسكان بيروت وضواحيها»، وفق ما تقول الدكتورة ندى نعمة، نائب رئيس «جمعية حماية المستهلك» في لبنان ومسؤولة قسم المراقبة وسلامة الغذاء فيها. حاولت «الحياة» الاتصال بوزارة الطاقة والمياه لأخذ رأيها في هذا الموضوع، إلاّ أنها أحالتنا على «مؤسسة مياه بيروت» التي تهرّبت بدورها مرات عدة ورفضت التعليق على الموضوع. وتوضح نعمة «حاولنا العمل أكثر من مرة مع المعنيين للوقوف عند هذه المشكلة ومحاولة إيجاد حلول لها، لكن لا أحد يتعاون معنا». وتتابع «من المؤكّد أن المياه تخفّ في فصل الصيف. وزاد الطلب عليها اليوم بفعل ازدياد حاجات الناس وتوسّع المناطق ووجود اللاجئين السوريين، لكن من غير المعقول أن تنقطع نهائياً. للأسف هناك من يحجز هذه المياه ويقطعها عن الناس من أجل إعادة بيعها. الجميع يعرف هذه الفوضى وهذه المافيات المنتشرة في مختلف أنحاء بيروت، ولكن لا أحد يتحرّك لأنها شبكة مصالح متبادلة، ويبدو أنها أقوى من الدولة وتتفوّق عليها في قدرتها على تأمين المياه وبيعها بالأسعار التي تحلو لها وجني الأرباح منها». مجهولة المصدر على صهريجه الأخضر في حي آخر في ضاحية بيروت، يجلس أحد الشبّان الذي لا يتوقّف هاتفه الخلوي عن الرنين من قبل طالبي المياه، وبرفقته فتى لا يتعدّى عمره 15 سنة. يمدان خراطيم المياه الغليظة في عرض الطريق ويسحبونها على الأرض ثمّ يضعونها في خزانات الزبائن من دون مراعاة أي معايير للنظافة. يؤكّد الشاب أن مياهه نظيفة وحتى أنها «صالحة للشرب»، على رغم أن السكان يؤكّدون أنها مياه مالحة. يمتعض الشاب الثلاثيني عند سؤاله عن مصدر هذه المياه، ويقول إنها من «إحدى شركات تكرير المياه ومن بئر ارتوازي خاص»، رافضاً الإفصاح عن أي معلومات إضافية أو ذكر اسم الشركة التي تكرّر هذه المياه. ويجزم: «لولانا لمات الناس من شحّ المياه. نحن نؤمّنها لهم فور طلبهم». وفي حال كان مصدر هذه المياه محطات تكرير، فمن المفترض أن تكون هذه المحطات تابعة للدولة. أما إذا كانت محطة تكرير خاصة أو بئراً ارتوازياً خاصاً، فيجب أن يحصل صاحبها على رخصة بيع مياه من قبل الدولة، يلتزم بموجبها شروط العمل في هذا المجال. وهذا الأمر «غير متوافر على الأرض، ومعظم البائعين يعملون في شكل غير شرعي والمياه تباع من دون أن تفحص أو تعالج»، وفق ما تشرح نعمة، التي تضيف أن «مياه الصهاريج مجهولة المصدر ومعظمها ملوّث إن لم تكن كلها. لا نعرف من أين تعبأ ولا يسمحون لك بمعرفة ذلك. وهي بالتأكيد تحمل جراثيم كثيرة تعود بأمراض وكوارث على الصحة. كما أن هذه الصهاريج تعمل ليلاً ونهاراً من دون أن تنظّف في ظل غياب أي مراقبة أو فحص لها». وتكشف نعمة أن الفحوصات الأخيرة التي أجرتها الجمعية هذا العام تؤكّد ازدياد نسبة التلوّث، المرتفعة أصلاً، في المياه التي تضخ بواسطة الشبكات العامة إلى المنازل. كما تشير النتائج الأخيرة إلى أن مياه الآبار والينابيع كلها، والتي تُعدّ مصدراً للبائعين، ملوّثة وتترك آثاراً كبيرة في الجسم البشري نظراً لاحتوائها على معادن مثل الزئبق، إضافة إلى نسب الملوحة العالية فيها». غرباء «نحن غرباء هنا. البلد لمثل هؤلاء»، يقول أ. غصن من منطقة عين الرمانة أثناء انتظاره في سيارته لحين انتهاء أحد أصحاب الصهاريج من إفراغ حصته وفتح الطريق. وغصن أيضاً يعتمد على هذه «المافيات بكل ما للكلمة من معنى» لسد حاجاته من المياه. ويقول: «نشتري في شكل شبه يومي. كل شيء هنا محسوبيات ومصالح شخصية. المياه تأتي في بعض الأحياء وتغيب عن أخرى طوال الصيف، والخلل الأساس يبدأ من البلدية»، مضيفاً «أنشئت آبار عدة لتوصيل المياه إلى البيوت، لكنها أيضاً في مقابل اشتراك، فتبقى مكانك راوح، تدفع فاتورة للدولة وفاتورة خاصة». وإضافة إلى المصاريف المعيشية التي ترتفع يوماً بعد يوم، تزداد مصاريف أبو نديم في أشهر الصيف وأوائل الخريف بسبب «أزمة المياه التي تسوء سنة تلو الأخرى»، ما يضطره إلى زيادة ساعات العمل من أجل تأمين هذا المبلغ الإضافي. ويدفع أبو نديم، الذي يشتري المياه يومياً أيضاً مبلغ 14 ألف ليرة (نحو 10 دولارات) من أجل الحصول عليها، ما يكلفه 420 ألف ليرة (280 دولاراً) كمبلغ شهري إضافي. «طلبت من البائع أن أتعاقد معه في مقابل خفض سعر حصة المياه، فكان جوابه «لو اشتريت مرتين في اليوم وليس مرة واحدة، الأسعار هكذا. جيراننا يهربون إلى قراهم في الصيف لتلافي هذه الأزمة. أمّا نحن فليس بيدنا حيلة». وليس الوضع أفضل في منطقة المنصورية (شرق بيروت)، إذ يشكو السكان من «الانقطاع المتعمّد للمياه». وتقول إحدى سكان حي بدران في المنطقة «في تموز (يوليو) وآب (أغسطس) وأيلول (سبتمبر) لا تأتي المياه أبداً. يحوّلونها إلى المسابح ويقبضون ثمنها ونحن نقع الضحية. 60 ألف ليرة (40 دولاراً) أدفعها كل أسبوع ولا يمكننا فعل شيء. يتحكمون بنا ولا أحد يشعر بما نعاني». «مافيات بيع المياه هي الجزء الظاهر من شبكة فساد كبيرة في البلد تشترك فيها جهات رسمية عدة وشبكات مصالح متبادلة. الوضع فعلاً معقّد والاقتصاص من المسؤولين عن هذه المأساة ليس بالسهل، لتشعّبها وامتدادها من منطقة إلى أخرى»، تلفت نعمة، مضيفة «لكن ما دام هناك مياه في الصهاريج، يعني أن هناك مياهاً في البلد، لكنهم يسيطرون عليها ويفاقمون معاناة الأهالي ويحرمونهم من أبسط حقوقهم الإنسانية التي يتوجّب على الدولة توفيرها لهم بدل تركهم ضحية الفساد وفريسة من هم وراءه».