ما يتعرّض له الرئيس الليبي معمر القذافي هذه الأيام من ضغوط و«هلوسة» وجنون، بعدما أحكم الثوار من أبناء الشعب الليبي الخناق عليه ولم يعد يسيطر على أي مدينة سوى باب العزيزية في طرابلس، يثير في نفسي شعوراً بالراحة، وبأن خلاص أصدقائنا الليبيين بات قريباً جداًليس لدي جديد أدين به العقيد القذافي، فقد كتبت مراراً أندد به، واتهمه بجنون العظمة الذي تأكد للعالم أجمع من خلال أحاديثه المسعورة والمذعورة في أتون الثورة الشعبية عليه. لقد دنت ساعة الطاغية المخبول. ولن يتخلّص منه الشعب الليبي وحده، بل الصحيح أن يقال إن الشعب الليبي أخذ على عاتقه وبدماء شهدائه الزكية أن يخلَّص العالم كله منه. وهل في شعوب الأرض كلها من يعرف القذافي أكثر منّا نحن السودانيين؟ عندما قرر قطع علاقاته مع نظام الرئيس الراحل جعفر محمد نميري، عمد إلى مطالبة السودان برد قرض تبلغ قيمته 8 ملايين دولار كان قدمه إلى الحكومة لتثبيت النظام السوداني. وأسقط في يد نميري الذي ألفى الخزانة العمومية خاوية من النقد الأجنبي، فما كان من الرئيس الراحل سوى أن توجّه إلى شعبه طالباً التبرع ب«قرش» واحد من كل فرد (الجنيه السوداني كان يساوي 100 قرش آنذاك)، وفتح باب التبرع لما سماه «قرش الكرامة»، حتى تم جمع المال اللازم لرد القرض الليبي. وكنا نحن السودانيين أول من جرّب فيهم القذافي قرصنته وانتهاكه للقانون الدولي، إذ أجبر طائرة مدنية بريطانية كانت في طريقها من لندن إلى الخرطوم في تموز (يوليو) 1972، وكان ضمن ركابها قائدا انقلاب الحزب الشيوعي السوداني على نميري، وهما المقدم بابكر النور سوار الذهب والرائد فاروق عثمان حمد الله – رحمهما الله – وأنزلهما من الطائرة وسلمهما إلى نميري الذي سارع إلى إعدامهما. وفي منتصف السبعينات، كنا أول دولة في العالم يجرَّب عليها القذافي سطوة قواته الجوية، إذ أمر طائرة حربية ليبية بشن غارة لإسكات إذاعة أم درمان، ناسياً فضلها على بلاده، إذ أنشأتها بريطانيا في عام 1940 لتخليص ليبيا وبلدان أخرى من الاستعمار الإيطالي والألماني. ونجحت الطائرة الليبية في تدمير أحد استوديوهات الإذاعة السودانية وجزء من مكتبتها الخاصة بالشرائط الممغنطة. وفي عام 1976، وكنت طالباً آنئذٍ بجامعة الخرطوم، استيقظنا ذات صباح لنجد الجامعة والشوارع المحيطة بها والجسور القريبة منها تسيطر عليها قوات من المرتزقة الأفارقة الذين سهّل لهم القذافي التدريب والنفقات والنقل حتى قلب الخرطوم. ومثلما فعل مرتزقة القذافي في ثوار طرابلس وبنغازي والبيضاء وبرقة ودرنة والزاوية قبل أيام، فقد عاثوا في سكان الخرطوم تقتيلاً يؤكد أنهم أتوا لتنفيذ خريطة معدّة سلفاً لإراقة الدماء وترويع الأبرياء. واستمرت تدخلات القذافي في السودان حتى بعد استيلاء نظيره السوداني عمر البشير على السلطة، إذ ظل يمسك بملف دارفور بإحكام، خصوصاً أن له مطامع لا تخفى في شريط أوزو في تشاد التي تجاور السودان غرباً. وعلى رغم أن البشير أبدى إعجاباً منقطع النظير بتجربة القذافي، إلى درجة اقتباس تجربة «المؤتمرات» لحل أمهات قضايا السودان، وتبني فكرة «لجان شعبية» لتمثل المستوى القاعدي لنظام الحكم المحلي، إلا أن القذافي لم يرحم نداءات الاستجداء من قبل البشير بتزويد السودان المحاصر بالعقوبات الدولية بالنفط الليبي بشروط سهلة. وليس ثمة شك أن أكثر السودانيين حرصاً على متابعة مشاهد الثورة الليبية ونوبات الجنون والسعار التي اجتاحت العقيد الليبي هو البشير، لأن مصير القذافي سيقود إلى مصيره، بشكل أو آخر. على الأقل سيجد البشير رفيقاً في محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، إذا كتب للرئيس الليبي أن يخرج سالماً من المأزق الذي وجد نفسه فيه. ولعلّ القراء يدركون المساعي الجارية لتوجيه اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية إلى القذافي. وهي – في كل حال – تظل أخف وطأة من العيار الثقيل الذي يظن البشير أنه سينجو منه، فهو يواجه اتهامات بالإبادة الجماعية وارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ولا أشك بتاتاً في أن قلب الرئيس السوداني تتزايد ضرباته كلما طالع الشريط الإخباري على القنوات الفضائية: كل ساعة يتخلى «الحلفاء» الأوروبيون والغربيون عن القذافي. ومن سوء الطالع أن الثورة على القذافي اندلعت في وقت شعر فيه البشير بالارتخاء، ظاناً أن «المعروف» الذي قدمه مجاناً إلى الولاياتالمتحدة، بالقبول بفصل الجنوب ونتيجة استفتاء الشعب الجنوبي على تقرير مصيره، سيحقق له وعود «الرشوة» الأميركية، برفع العقوبات عن حكومته، وإزالة اسم بلاده من لائحة دعم الإرهاب وفتح الباب أمام إعادة إدماج محفل التطرف الإسلامي الذي يتزعمه في المجتمع الدولي. بعد الرئيسين السابقين التونسي زين العابدين بن علي والمصري حسني مبارك والعقيد القذافي، وفي الطريق شريك البشير في «حلف صنعاء»، سترتفع معدلات إفراز «الأدرينالين» في غدد البشير، إذ فشلت أجهزة الأمن المركزي والحرس الجمهوري والقوات الخاصة وقوات الجوسسة والتلصص والتنصت في درء خطر الغضب الشعبي، وقمع أرواح الشهداء التي تنادي في عليائها بالقصاص، وكبت أصوات المغلوبين على أمرهم والعطالى والمفصولين من وظائفهم، في وقف الاندفاع في طريق ذي اتجاه واحد: التغيير أو الصدام. اللهم خلَّص وطننا من طواغيته ومفسديه وقتلة أبنائه وسارقي اللقمة من حلوق أطفاله، ومن عملاء الأمن «حماة الفضيلة» الذين يغتصبون فتياتنا. صحافي من أسرة «الحياة». [email protected]