أقام شاه إيران محمد رضا بهلوي حفلة على شرف الرئيس الأميركي جيمي كارتر، ليلة رأس سنة 1978، في قصر نيافاران في طهران. قال كارتر في الحفلة: «إيران هي جزيرة الاستقرار في المنطقة». بعد شهرين، قدم راي كلاينز، النائب السابق لمدير CIA، التقويم التالي للوضع الإيراني من حيث معايير «القوة الوطنية»: «إيران تعد الخامسة بعد الاتحاد السوفياتي، والولاياتالمتحدة، وألمانيا الغربية، واليابان، وفق معايير محددة للقوة الوطنية تشمل الجاهزية العسكرية، والقوة الاقتصادية، والصحة السياسية، والإرادة الوطنية». قبيل أسابيع من انتصار ثورة الخميني في 11 شباط (فبراير) 1979 كشفت مجلة «التايم» (15 كانون الثاني/ يناير1979، ص 11) أن الذين يعرفون الفارسية من طاقم CIA في طهران لم يكن يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وأن هذا الطاقم لم تكن لديه أي اتصالات مع المعارضة الإيرانية. لذلك لم يكن مستغرباً أن يرفع هذا الطاقم في آب (أغسطس) 1978، وبعد ثمانية أشهر على أربعين ضحايا تلك التظاهرات (بالآلاف التي لم تتجاوز العشرة في مدينة قم في 10 كانون الثاني 1978، إلى تبريز في الربيع، ثم أصفهان في الصيف)، صدر تقرير سري إلى واشنطن يتضمن الآتي: «إيران ليست في وضع ثوري، وليست أيضاً في وضع ما قبل ثوري» (مجلة «نيوزويك»، 29 كانون الثاني1979، ص 12). في 8 أيلول (سبتمبر) 1978، أو ما أطلق عليه اسم «يوم الجمعة الأسود»، انطلقت تظاهرة في طهران ضمت 8 آلاف. تدخل الجيش وقتل 84 من المتظاهرين. كان هذا اليوم تدشيناً لاضطراب عام شمل إيران كلها، وكانت ذروته في إضراب عام شمل البلاد خلال الشهر التالي، ما أعطى مؤشراً قوياً على دخول نظام الشاه في حالة قوية من الاهتزاز. خلال تشرين الثاني (نوفمبر) تفتَحت العيون الأميركية على إيران بوصفها في «حالة أزمة»: لم يكن هذا التأخر الأميركي في معرفة ما يجري في بلد حيوي من العالم ناتجاً فقط من الجهل بما هو كامن (أو بما يظهر على السطح)، وإنما بحكم مفاعيل رؤية عقول صانعي القرار بواشنطن، منذ عام 1972، التي رأت في شاه إيران «شرطي الخليج» عقب استكمال الانسحاب البريطاني من منطقة شرق السويس، وقد زاد تمسك واشنطن بالشاه بعد المكاسب السوفياتية في إثيوبيا (شباط 1977) وأفغانستان (نيسان/ أبريل 1978) واليمن الجنوبي (حزيران/ يونيو 1978) وإثر الاضطراب الباكستاني الذي أعقب انقلاب الجنرال ضياء الحق على ذوالفقار علي بوتو (5 تموز/ يوليو1977)، وعقب دور الشاه في دعم الرئيس المصري أنور السادات منذ زيارته لإسرائيل (19 تشرين الثاني/ نوفمبر1977) وحتى توقيع اتفاقيات كامب دافيد (17 أيلول/ سبتمبر1978) ضد المعارضة العربية شبه الجماعية. لم يقد تشرين الثاني 1978 إلى سياسة أميركية محددة تجاه الأزمة الإيرانية. كانت الخارجية الأميركية مقتنعة منذ ذلك الشهر بأنه لا يمكن إيقاف الثورة، فيما أعطى مستشار الأمن القومي زبيغنيو بريجنسكي «دعم الولاياتالمتحدة للشاه» في مكالمة تلفونية في الرابع من ذلك الشهر، وهو بالتأكيد ما شجع الأخير على تشكيل حكومة عسكرية بعد يومين برئاسة الجنرال غلام رضا أصغري. لم ينفع هذا العلاج، خصوصاً بعد تحول الأزمة الإيرانية إلى أزمة نفطية عالمية مع إضراب عمال حقول النفط، ثم في 2 كانون الأول (ديسمبر) والدخول في شهر محرم، تحولت تظاهرة ساحة آزادي في طهران إلى رقم تجاوز المليونين، قبل أن تتفوق الثورة الإيرانية، على الفرنسية عام 1789 والروسية بين شباط وتشرين الأول (أكتوبر) 1917، عندما تجاوزت تظاهرات يومي 10 و11 كانون الأول نسبة 10 في المئة من مجموع السكان فيما لم تتجاوز في تلك الثورات حدود 1 في المئة. وصار واضحاً عجز الحكومة العسكرية عن ضبط الوضع مع سلبية رئيس الأركان الجنرال غلام علي عويسي، الذي كان يأمل بأن تفاقم الوضع سيدفع واشنطن إلى تبنيه ك «بينوشيه» إيراني. لم يكن هذا بعيداً عن تفكير جورج بول، نائب وزير الخارجية الأميركي السابق، الذي طلب كارتر مشورته. من هنا كانت معارضة الجنرال عويسي الحل التي تبنته واشنطن لاحقاً في الشهر الأول من عام1979 (بالترافق مع إرسال الجنرال روبرت هويسر إلى طهران لمنع قيام الجيش بانقلاب عسكري) المتمثل في حكومة يرأسها أحد قادة المعارضة المنشقين، وهو شاهبور بختيار الذي كان نائب رئيس «الجبهة الوطنية» بزعامة كريم سنجابي، ومع خطوات عدة، منها رحيل الشاه للخارج وتشكيل «مجلس وصاية على العرش» باعتبار ولي العهد لم يبلغ الحادية والعشرين. أدت سلبية الجيش الإيراني، خلال الأسابيع الثلاثة التي فصلت بين مغادرة الشاه ويوم 11 شباط، مع معارضة خميني حكومة بختيار، إلى انهيار الأخير، ولم يستطع «الحرس الإمبراطوري» أن يشكل عائقاً أمام تحوله إلى «كرنسكي إيراني» على حد وصف سفير غربي في طهران («نيوزويك»، 29 كانون الثاني 1979، ص8). كانت طهران في 11 شباط 1979 نكسة استراتيجية بالغة لواشنطن، لم تفق منها خلال ثلاثة عقود لاحقة. لم يتعلم الأميركيون كثيراً من ذلك الدرس الكبير. مع هذا يمكن القول إن أداء الولاياتالمتحدة في أحداث مصر، بين 25 كانون الثاني و11 شباط 2011، كان يعبر عن اتساق أكبر في التعبير عن رؤية تفاعلية مع الأحداث واجتراح حلول «ناجعة»، لم يكن يملكها الرئيس كارتر «الذي أغرقته الأحداث الإيرانية»، والذي يميل اليمين الأميركي الحالي، وهو وريث المحافظين الجدد الذين هيمنوا في عهد بوش الابن، إلى تشبيه باراك أوباما به. كان تعليق وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، خلال ساعات (كل الاستشهادات من جريدة «نيويورك تايمز») من بدء تظاهرات 25 يناير في القاهرة، هو الآتي: «الانطباع لدينا هو أن الحكومة المصرية مستقرة»، فيما أتبع هذا باليومين التاليين نائب الرئيس جو بايدن: «لا يمكن الإشارة إلى الرئيس مبارك بأنه ديكتاتور»، «مبارك حليف»، وأجاب ب «لا» على موضوع رحيل مبارك. كانت كلينتون في الضفة الأخرى بالقياس لبايدن حين بدأت في أخذ مسافة منذ 26 كانون الثاني، مع اتساع حجم التظاهرات المصرية ضد مبارك: «أمام الحكومة المصرية فرصة مهمة في الوقت الحالي لتنفيذ إصلاحات»، من دون الدعوة الى خطوات أخرى تزيد المسافة بين واشنطن والرئيس المصري، مثل «تخويل الصلاحيات» أو «الرحيل». قفز جون كيري، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، ليقطع مسافة كبيرة مع غموض في الملامح، حين دعا، إثر إدراكه قوة تظاهرات يوم الجمعة 28 كانون الثاني، مصر لأن «تختار قائداً جديداً لها هذا العام عبر انتخابات حرة نزيهة وديموقراطية»، ولكن، من دون أن يوضح ما إذا كان يعني انتظار انتهاء ولاية مبارك في الخريف المقبل، أو «تخويل الصلاحيات»، أو «الرحيل». في 28 كانون الثاني انهارت قوات وزارة الداخلية المصرية ونزل الجيش الى الشارع لحفظ الأمن. في اليوم التالي كان هناك تناغم بين تعيين مبارك عمر سليمان نائباً للرئيس، مع لهجة أميركية جديدة أطلقتها كلينتون تقول ب «انتقال منظّم للسلطة»، بالترادف مع قولها ب «رفض تنحي مبارك»، وإن كانت أرفقت بأن تلك الخطوات «ليست كافية. هذه هي البداية... نحو تحقيق الإصلاح الديموقراطي». وفق تعبير السفير الأميركي السابق في عهد الرئيس كلينتون مارتن إنديك: منذ صباح الأحد 30 كانون الثاني «فهمت الإدارة أن مبارك قد انتهى. منذ ذلك الحين فهموا وحاولوا إيجاد آلية لكيف يمكن أن يحصل ذلك». في الثانية من بعد ظهر ذلك اليوم في واشنطن أقلعت طائرة نحو القاهرة كانت تقل السفير الأميركي السابق في مصر فرانك ويزنر، للاجتماع مع مبارك، وهو ما حصل الثلثاء، وسط واقعة «حياد الجيش المعلن منذ الاثنين». مساء الثلثاء أعلن الرئيس المصري نيته «عدم الترشح ثانية». بعد قليل من خطاب الرئيس المصري، حصل تصعيد من أوباما تجاهه حين أعلن أن «التغيير يجب أن يبدأ الآن». لم يؤد هذا التصريح إلى وضوح في أجندات واشنطن المصرية، باستثناء نقطة واحدة، هي اقتناع واشنطن بعدم قدرة مبارك على الاحتفاظ بوضعيته في مرحلة ما قبل 25 كانون الثاني. على رغم هذا، كان واضحاً أن واشنطن بدأت الاعتماد على عمر سليمان لقيادة عملية «انتقال منظّم للسلطة»، مع فتح نافذة على المعارضة المصرية التي قال طاقم البيت الأبيض أثناء اجتماع في 30 كانون الثاني، برئاسة بنجامين رودز نائب مستشار الأمن القومي لشؤون الاتصالات الاستراتيجية، أنهم «لا يستبعدون علاقة مع الأخوان المسلمين كجزء من مسار نظامي للأمور، وان السياسة المصرية تحتاج لأن تضم أحزاباً غير علمانية» بالترافق عند واشنطن مع سياسات تجاه «ميدان التحرير» أعادت الى الأذهان بعض ما انتهجت إدارة بوش الأب تجاه ما جرى في خريف 1989 في شوارع أوروبا الشرقية والوسطى. كان الجيش (مديح أوباما للمؤسسة العسكرية المصرية في 1 شباط ل «وطنيتها واحترافيتها») هو احتياطي (وربما ثالوثها) هذه الثنائية، التي وضحت استحالة تشكيلها بعد فشل محادثات عمر سليمان مع المعارضة، واستمرار بقاء مبارك في الزاوية الخلفية، خصوصاً بعد عدم استطاعة سليمان أخذ مسافة من مبارك (أخذها شاهبور بختيار من الشاه، ولكن بلا جدوى) الذي عاد الى الصورة التلفزيونية لترؤس اجتماعات كان نائبه حاضراً في أحدها، أو أن يقترب من «ميدان التحرير» حين أعلن في 6 شباط عن قناعاته ب «عدم جاهزية البلد للديموقراطية» ولما قال في 8 شباط أن «رحيل مبارك الآن، كما يطالب المتظاهرون، أمر ضد أخلاق المصريين»، قاده ذلك لأن يؤدي «تخويل الصلاحيات» إليه، في مساء الخميس 10 شباط، إلى مفاعيل عكسية زادت غليان «ميدان التحرير»، فنجح خطاب التنحي (الذي أعلنه سليمان نيابة عن مبارك في مغرب 11 شباط والذي يشمل عملياً بمفاعيله كلاً منهما). كان سرور أوباما بعد تنحي الرئيس المصري وتشبيهه سقوط حليفه مبارك ب «سقوط جدار برلين» معاكساً لوجوم كارتر تجاه ما حدث بطهران في اليوم نفسه من عام 1979: هل سيكون اليوم المصري، ذاك، مختلفاً عن اليوم الإيراني بالنسبة إلى واشنطن؟ * كاتب سوري