امتدت مسيرة رفعت السعيد في قلب الحركة الشيوعية المصرية منذ أربعينات القرن الماضي، وانطلقت من مسقط رأسه المنصورة، حيث اعتقل للمرة الأولى عام 1946 وهو في الرابعة عشرة ، خلال مشاركته في تظاهرة سياسية. وظل السعيد حتى وفاته مساء الخميس عن 85 عاماً، أحد أبرز وجوه اليسار المصري والعربي، واحتل مكانة المؤرخ الأبرز لتلك الحركة بلا منازع، وتصدَّر قائمة خصوم تيار الإسلام السياسي، ويُنسَب إليه مصطلح «المتأسلمين» لوصف الأفكار التي يتكئ عليها المنتمون إلى ذلك التيار، وفي مقدمهم جماعة «الإخوان المسلمين». والغريب أنه اتخذ موقفاً مماثلاً لموقف قيادة تلك الجماعة مِن الدعوة إلى التظاهر يوم 25 كانون الثاني (يناير) 2011، إذ حض المنتمين إلى حزب التجمع على عدم النزول إلى الشوارع والميادين في ذلك اليوم، لأنه «عيد الشرطة»! وبسبب ذلك الموقف، اعترض مسؤولون في حزب التجمع على ما وصفوه بأنه «تحول في مسار الحزب»، ومن ثم انشقوا عنه وأسَّسوا حزب «التحالف الشعبي الاشتراكي». وفي تطور لاحق، اعتبر السعيد حزبه «شريكاً في ثورة 30 حزيران (يونيو) 2013، بما أنه شارك في محاربة الإخوان المتأسلمين»، وقال أخيراً في حوار تلفزيوني، موجهاً حديثه إلى الرئيس عبدالفتاح السيسي: «نحن نحبك. أنت أنقذتَ رقبتي في 30 يونيو، لكن لا بد أن يتساوى الجميع في حمل عبء البناء والتنمية». وعقب إعلان أسرة السعيد خبر وفاته فجأة في منزله، صدر بيان مِن رئاسة الجمهورية جاء فيه: «فقدت مصر رمزاً من رموز العمل السياسي الوطني الذي أثرى الساحة السياسية المصرية بفكره ومواقفه». ويرى البعض أن السعيد بالَغ في مهادنة السلطة على رغم قيادته حزباً معارضاً، ربما انطلاقاً مِن إيمانه بضرورة الاصطفاف إلى جانبها في مواجهة الذين يتبنون العنف المسلح، ولوحظ أنه لم يرشح مطلقاً للفوز بأي من جوائز الدولة تقديراً لإنتاجه الفكري والأدبي، علماً أنه احتفظ حتى رحيله بعضوية لجنة التاريخ في المجلس الأعلى للثقافة الذي يتولى منح تلك الجوائز. وبعد سنوات طويلة شغل السعيد خلالها رئاسة حزب التجمع خلفاً لمؤسسه خالد محيي الدين، تولى في السنوات الأخيرة منصب «رئيس المجلس الاستشاري» للحزب ذاته. واحتفل الأسبوع الماضي بصدور كتاب جديد له عنوانه «الإرهاب المتأسلم... حسن البنا وتلاميذه من سيد قطب إلى داعش»، كما شارك منتصف الشهر الماضي في لقاء نظمته مكتبة الإسكندرية تحت عنوان «حوار النخبة»، وشدَّد خلاله على ضرورة أن تلعب المكتبة دوراً أكبر «في مواجهة تزييف المتأسلمين وعي الشباب». وفي خضم انخراطه في العمل السياسي، السري والمعلن، كتب «السكن في الأدوار العليا»، ثم «البصقة» و «رمال» و «مع حكايات الحكايات» و «مجرد ذكريات»، لتضعه مع رواد «أدب السجون» في العالم العربي، لكنه كان يعتبرها «مجرد محاولات» في الكتابة الأدبية. وإلى تأريخ حركة اليسار المصري، كتب عن شخصيات بارزة في الحركة الوطنية المصرية، مثل رفاعة الطهطاوي، أحمد عرابي، مصطفى النحاس. وعالج قضية العلاقة بين مسلمي مصر وأقباطها، وقضايا الماركسية الحديثة في مصر والعالم بأسره. تعرض السعيد للسجن على خلفية نشاطه السياسي لفترات محدودة في العهد الملكي، وعقب الثورة قبع في السجن من 1953 إلى 1958، ثم من 1959 إلى 1964. بعد ذلك انضم إلى «الاتحاد العربي الاشتراكي»، التنظيم الحاكم وقتذاك، وعمل صحافياً في «أخبار اليوم» القاهرية، ثم سكرتيراً شخصياً لخالد محيي الدين، العضو المؤسس في تنظيم «الضباط الأحرار». بعد ذلك، أصبح أحد قادة المجلس المصري للسلام وتمكن من إكمال دراسته الأكاديمية، فحصل على الدكتوراه من جامعة لايبزيغ. ولدت فكرة روايته الأولى «السكن في الأدوار العليا» في السجن، وعلى حد تعبيره: «فجأة مرق سهم مضيء جعلني أتساءل لماذا لا أكتب شيئاً؟ وقررت أن أكتب رواية، أو بالدقة حكاية. وراودتني مجموعة من الأسئلة أين أكتب؟ وكيف؟ وكان الرد جنونياً، أسجلها شفوياً، أختزن الوقائع والحكايات وأصوغها وأعيد صياغتها وأرتبها وأعيد ترتيبها، لكن الأمر تحول إلى حال تشبه الإدمان، أن أكمل الرواية، أتقنها، أعيد صياغتها حرفاً حرفاً، مرات عدة. الساعات لم تعد تكفي، وإعادة الصياغة أرهقتني، وأخيراً اكتملت الرواية وراجعتها في ذاكرتي عشرات المرات، ثم كان قرار الإفراج. إلى البيت عدتُ، وبعد السلامات والتحيات وقبلات الأم والزوجة والأولاد والأخوات، بدأ هذا المولود الكامن في عمق الذاكرة يتمرد، أنا لم أستطع المقاومة، وجلست وشربت كوباً كبيراً من القهوة. أغلقت غرفة المكتب وأطلقت كلمات الذاكرة، كما كانت صياغتها الأخيرة، وفي ست ساعات كانت الرواية مخطوطاً مكتملاً». أما سبب دخوله السجن تلك المرة، فهو اتهامه بأنه العقل المدبر لتظاهرات كانون الثاني 1977 التي أطلق عليها الرئيس أنور السادات «انتفاضة الحرامية»، فيما سمتها المعارضة «انتفاضة الخبز».