قواسم مشتركة، وصفات متعددة تجمع بين ثناياها نقيضين، أحدهما يتجسد على الصعيد المحلي الاجتماعي والآخر على نظيره الدولي السياسي، فبيت العائلة سابقاً كان الجد الملقب (كبير العيلة)، هو «أمينها العام» الذي يصدر قراراته النهائية بشأن كل ما يخص أعضاء أسرته، بعد العديد من المناوشات والتوصيات والاقتراحات التي يخرج بها بعد كل جلسة يعقدها معهم بين فترة وأخرى. هو أمين عام يعزز مستوى الحياة الاقتصادية لأبنائه وترسيخ قيم الود والوئام بينهم، إضافة إلى التصدي للنزاعات بين أفراده من دون كلل أو ملل. ولم يخطر ببال الفنانة فايزة احمد عندما قدمت أغنية «بيت العز يا بتنا، على بابك عنبتنا، فيها خضرة وظليلة، وترفرف عالعيلة»، في السبعينات، ان الشباب لن يتأخر وقتها في الهتاف والتصويت للسكن في بيت العيلة، لما تشهده أسواره من الكثير من الحب والود والوئام والتعاضد في تربية الأبناء والأحفاد من الأجداد والآباء والإخوة من جهة، ولأنه مشبع حسيّاً بمشاعر العطف والحنان والوئام التي يتلقوها من المربين من جهة أخرى. إن البيت الكبير لم يعد كبيراً في عيون أجياله الحديثة، بل بات كثيرون أبنائه ينظرون إلى هذا البيت وكأنه حلبة تتصارع فيها آراء وتدخلات أعضائها، وفتيل مشاكل يستوجب الهروب منه إلى سكن مستقل. لم تنسَ زوجة الابن منى بيت العيلة التي عاشت في كنفه عشرين عاماً، وكان لها بمثابة مدرسة اكتسبت من خلالها الكثير من الخبرات والتجارب الحياتية، أما حماها وحماتها، فكانا في نظرها الحضن الدافئ والقلب الحنون الذي عوضها فقدانها لوالديها اثر حادث سيارة. وتقول: «تزوجت قبل أن أبلغ الخامسة عشرة عاماً، لم أكن أدرك من مسؤوليات الزواج سوى اسمه، ولكن بفضل نصائح حماتي وتوجيهها الدائم لي، ومساعدة أخوات زوجي وزوجات إخوانه الأنضج مني خبرة، وتقليدي أسلوب حياتهم، نجح زواجي وتقلصت مهمة تربية الأبناء من على عاتقي وحدي». وتضيف: «ارتباط إخوان زوجي بسيدات ينتمين إلى جنسيات متباينة، وسكني معهم في البيت نفسه، ضاعفا من تداخل الثقافات بيننا واكتساب الكثير من المعرفة». وفي حالة أخرى، شبَّهَت منيرة (27 عاماً) بيت عائلة زوجها، الذي لم تصمد فيه أكثر من سنتين، ب «السجن المرفّه، الذي تزينه قضبان معنوية حيناً، وبالمنطقة العسكرية التي يقودها ديكتاتور حيناً آخر». وتقول: «لم أجد في بيت أهل زوجي أي مشاعر ود أو حنان، بل إن إحساسهم الدائم لي بأني غريبة عنهم وسعيهم المتواصل إلى إخفاء أسرارهم وأفراحهم عني وغيرة ابنتهم المطلَّقة مني ومحاولتها استفزازي، وبذل حماتي قصارى جهدها في إهانتي وإنهاكي في أعمال المنزل، إضافة إلى تطفلها في تربية أبنائي، اضطرتني إلى تخيير زوجي بين الطلاق أو الهروب إلى منزل مستقل، ما دفعه ذلك إلى الاقتناع برأيي». وتضيف: «عندما كنت أبدي لحماتي انزعاجي من جرحها لي وتحميلي من الأعمال فوق طاقتي، كانت تكتفي بالرد علي في كل مرة: اشكري ربك، أنقدتك من العنوسة وزوجتك ابني، رجل ما كنت تحلمين بظفره». أما سلطان (30 عاماً)، فيحتفظ بقيمة بيت العيلة في قلبه، مفضلاً عدم السكن فيه، واحتراماً لعلاقة القرابة مع إخوته وحفاظاً على أواصر المودة بينهم، مستفيداً بذلك من تجربة أخيه الأكبر، ويوضح: «زواج أخي الكبير، وعدم توافق زوجته مع والدتي وزوجة أخي، فاقما من حجم المشاكل بينهم وأدى إلى مقاطعته لأهلي، ما يدفعني إلى تحاشي هذه المشكلة واللجوء إلى تكوين أسرة نووية في منزل مستقل بدلاً من ممتدة في بيت يشوبه الكثير من الخلافات والاختلافات». ويعبّر الجد والأب والحما أبو صالح (80 عاماً) عن أسفه لافتقار بيت العيلة قِيَمَه ومعانيَه الجميلة في الوقت الحالي، واحترام ساكنيه كلمة كبير البيت وتقدير سن ملاكه، على حد قوله: «في السابق كان بيت العيلة يمثل الحضن والأمان والاستقرار، وشرياناً يوطد علاقات أفراد الأسرة، أما الآن، فلم يعد يشكل سوى بؤرة مشاكل يستوجب الابتعاد عنها في عيون الكثيرين». ويحزّ في نفسه «تذبذب بعض الشباب وانصياعهم لأوامر زوجاتهم من دون مراعاة مشاعر والديهم». وتؤكد أم راشد (72 عاماً) «انصياع الزوجة إلى كلام مَن حولَها، وتشبُّعها من تحريض ذويها لها قبل لحظة اقترانها، واعتبارها أم الزوج وحشاً كاسراً يريد النيل منها، وتخطيطها المسبق لبناء حدود وحواجز بينها وبين أهل زوجها... كل ذلك لعب دوراً كبيراً في تفكيك شمل الأسرة وغرس الكثير من المشاكل». وترى الاختصاصية الاجتماعية ليلى الغامدي «أن مفاهيم المجتمع ونظرته تجاه بيت العائلة في السابق تختلف عما هي عليه الآن، كما أن اختلاف نمط الحياة الاجتماعية والحالة الاقتصادية والانفتاح الذي يعيشه المجتمع، وقدرة الكثير من الشباب والشابات على التعبير عن رأيهم واتخاذ قرارهم بأنفسهم وحرصهم على الفوز بالخصوصية، بعكس حال نظرائهم من الجيل السابق، لعبت دوراً كبيراً في ميل الكثير منهم إلى الاستقلالية والعيش بحرية بعيداً من القيود والأنظمة التي يفرضها عليهم البيت الكبير». وتزيد: «شخصية الوالدين وطبيعة تعاملهما مع باقي أعضاء الأسرة الممتدة من جهة، واعتبار زوجة الابن أهل زوجها بمثابة أهل لها، والتعايش معهم على هذا الأساس وتقديرها لهم من عدمه، كفيلة بتوطيد المعاني السامية التي يكتنفها ذلك البيت قلباً وقالباً». وأظهر مسح ميداني قام به فريق طلاب كلية العمارة والتخطيط على 800 وحدة سكنية للتعرف الى الخصائص الحالية للمساكن والبيئة السكنية وطبيعة رغبات المواطنين، وأشرف عليه المتخصص في كلية العمارة والتخطيط فهد الحريقي، أن متوسط حجم الأسرة النووية (المكونة من الزوجين وأطفالهما فقط) يبلغ 6.3 أفراد، أما حجم الأسرة التي يعيش معها احد أفرادها المتزوجين فيبلغ 8.6 أفراد، في حين تبلغ الأسر التي يعيش معها أكثر من ثلاثة أفراد متزوجين 13.3 فرداً.