وصِفتْ الحكومة الأردنية الجديدة التي تشكّلت في بدايات الشهر الجاري برئاسة معروف البخيت بأنها «حكومة إصلاح سياسي»، وقد استجابت لمهمتها هذه عبر العدد الكبير من السياسيين وذوي الخلفية الحزبية فيها على حساب الاقتصاديين والتكنوقراط. وابتعدت هذه الحكومة من السياسيين من رجال الأعمال والشباب والجيل الجديد، تحقيقاً ربما للانسجام النسبي بين أعضاء فريقها، وبما يوحي بتبنٍ لأفكار مدرسة تقليدية في الإدارة العامة في الأردن ترى في اقتصاد السوق وانسحاب القطاع العام من قيادة العملية الاقتصادية سبباً رئيساً لخلل التنمية في الأردن، وتفاقم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية. وإذ تأتي هذه الحكومة على صدى التطورات التي جرت في مصر وتونس، فإنها ترجو أن تكون مهمة الإصلاح السياسي سبيلاً لإرساء الاستقرار، وتخفيف الاحتقان الشعبي، عبر الوصول إلى إقرار قانون انتخابات عصري جديد، بديلاً من القانون الحالي، «الصوت الواحد»، الذي قتل الحياة الحزبية والسياسية في الأردن، وأنهض الهويات الأولية عشائرية وعائلية وجهوية... فارتفع معها العنف المجتمعي إلى درجات غير مسبوقة في الأردن. وأنْ تكون حكومةُ معروف البخيت حكومة إصلاح سياسيّ لا يعني أنْ تضع الإصلاح الاقتصاديّ على الرفّ، بل من المهم أنْ تدرك منذ البداية أنّ هذين الإصلاحين ينبغي عليهما السير معاً، وأنّ فقدان التوازن بينهما، والذي ساد في السنوات الماضية، إنما يُعالَجُ عبر طريق واحدة هي: تعزيز «الحوكمة» ومحاربة الفساد المالي والسياسيّ والإداري. لقد كان العقد الماضي في الأردن، في واحدة من أهم صفاته، عقداً سيطر عليه الخلل وعدم التوازن بين الإصلاحين السياسيّ والاقتصاديّ، فكان أحدهما يتقدّم على الآخر، لكنّ الغلبة كانتْ باستمرار للملف الاقتصادي على حساب السياسيّ. وبعد سنوات طويلة على هذه التجربة، تبيّن للأردنيين كم كان برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي طبقوه مشوّهاً ومتسرّعاً، كما تأكّد مجدداً أنّ الإصلاحين الاقتصادي والاجتماعي لا يأخذان مداهما ولا ينجحان من دون إصلاح سياسيّ، وأنّ الأخير يبقى شعاراً وثرثرة ما لم يقترن بإصلاح دستوري يستهدف تطوير الحياة العامة وتوسيع الحريات وزيادة المشاركة الشعبية في صناعة القرار. ولم يكن الأردنيون، وهم ليسوا أغراراً في الإدارة العامة، بحاجة إلى كل هذا الوقت لاكتشاف أنّ هدر المال العام واستنزاف خزينة الدولة، في بلد قليل الموارد، وضعف عدالة التنمية وتوزيع الموارد ذات جذور سياسية وقانونية تتعلق أساساً بضعف الحوكمة والمساءلة وهشاشة الرقابة البرلمانية والمجتمع المدني وتراجع قدرة المجتمع على محاصرة الفساد المالي والسياسي والإداري. ولم يكن الأردنيون بحاجة إلى كل هذا الوقت لاكتشاف أنّ الفساد يعطّل مفاعيل أيّ إصلاح اجتماعي، وأنه في الوقت الذي ينفذ الفساد بكل سلاسة عبر الاقتصاد الريعيّ، فإنّ هذا الفساد يجعل مسألة الإصلاح الاقتصادي الجزئي المزعومة ومسألة خصخصة القطاعات العامة فرصة سانحة ل «القطط السِمان» و «رجال الأعمال - السياسيين الجدد» لنهب المال العام، ووضع العراقيل القاسية أمام نجاح فكرة الخصخصة التي تستهدف أصلاً إعادة إطلاق دورة الاقتصاد من جديد، وإعادة تمويل الدولة وتأمين مئات الآلاف من فُرص العمل وزيادة التنافسية والإنتاج. في تشكيلة حكومة البخيت الجديدة ما يشير إلى غلبة الملف السياسيّ على الاقتصادي، وفيها ما يشير إلى شبه تبنٍّ لاتجاه الإصلاح الاجتماعي والحنين لضخ مزيد من الدماء في القطاع العام، وتحميل الاقتصاد الحرّ وزر كل الأخطاء التي ارتُكبت منذ أكثر من عقد من الزمان. وقد يكون هذا فهماً مغلوطاً للرسالة التي بعثتها أحداث تونس ومصر. والبداية الصحيحة للحكومة الأردنية الجديدة، في ظنّي، هي في الاقتناع أولاً، بأنّ الإصلاحات الاقتصادية في الأردن كانت مشوّهة وجزئية وغير متدرجة، فقد غاب عنها تعزيز شبكات الأمان الاجتماعي وحماية الطبقة الوسطى، وأنها زادتْ تشوّهاً حين بُترتْ عن إصلاح سياسيّ، الأمر الذي خلق نمواً مزعوماً ولم يخلق تنمية حقيقية تتسم باتساع منافعها على أكبر شريحة من الناس، كما تتسم بتأمين تكافؤ الفرص وإعطاء الأولوية للكفاءة والجودة بدلاً من شبكة العلاقات الزبونية و «التنفيع» المتبادل. والزبونية لا تنحدر جذورها من فلسفة الاقتصاد الحرّ بقدر ما تنحدر من بيروقراطية حكومية كسولة أرهقتْ الخزينة بالصرف على رواتب وبدلات كبار الموظفين والمديرين والمسؤولين على حساب صغار الموظفين. وأيّ ميلٍ من حكومة البخيت لدعم السلع الاستهلاكية أو انتهاج أسلوب «الترضيات» سيكون في الاتجاه الخاطئ، وسيجلب للخزينة مزيداً من الإرهاق. وبدلاً من ذلك، ينبغي الاقتناع بأنّ ثمة إنفاقاً حكومياً ضخماً من الناتج المحليّ، وأنّ ثمة تمدداً لدور الدولة الاقتصادي، وإهمالاً للدور الاجتماعي المتوازن. والاقتصاد الحُر لا يعني أنْ تتخلى الدولة عن دورها الاجتماعي، وواجبها في حماية المنافسة العادلة ومنع الاحتكار. إنّ الكلام السابق يريد الوصول إلى نتيجة تقول إنّ ما يجمع بين الإصلاحين السياسي والاقتصادي ويجعل التنمية تسير على قدمين اثنتين لا واحدة هو تعزيز الحوكمة ومحاربة الفساد ووقف الهدر العام، وفي الحكومة الجديدة من الكفاءات ما يُحصّنها من «تجريب المجرّب»، ولديها هامش من الصلاحيات التي كفلها خطاب التكليف من جانب العاهل الأردني، ومن الآمال الشعبية (التي تستلهم أحداث تونس ومصر) بأنْ تُحدث إنجازاً فارقاً، يتجاوز إقرار قانون انتخاب عصري وإجراء انتخابات برلمانية وفقاً له، فهل تحظى بهذا «الاختلاف»، في ظرف من المزاج العام لا يمنحها الكثير من الوقت وترف الاسترخاء؟ * كاتب أردني.