سُئَل مدير حكومي، ظل على كرسي الإدارة زمناً قارب ال «20» عاماً، ما الآلية أو الكيفية التي من خلالها استطعت البقاء هذه الفترة الطويلة بالمركز ذاته وعلى قمة الهرم الإداري؟ ابتسم وقال: «لم أواجه صعوبة تذكر حيال هذا الأمر، بل إن السياسة الناجحة التي اتبعتها هي أنني كنت أقول «لا» لكل رأي جديد»!! من هنا تتضح بعض الأفكار والرؤى، ويظهر جلياً كيف أن بعض العقليات والجهود والأطروحات قُتِلَت بمباركة من على مَنْهَجية المدير السابق وما أكثرهم، تظل الإدارة فناً وعلماً بحد ذاته وليس كل إنسان مؤهلاً لأن يكون على مستوى عالٍ للإلمام بفن كهذا، وربما لا يملك من التحصيل العلمي أو الخبرة الحقيقية ما يشفع له أن يتزعم كرسياً لسنين طوال مع أن أي منصب يُمْنَحه إنسان بمساره الوظيفي هو تكليف بالمقام الأول قبل أن يكون «تشريفاً». لم تكن المعاناة التي نشاهدها ونعايشها داخل أروقة المؤسسات الحكومية والبيروقراطية المذهلة في جوانب متعددة كدفع معاملة مواطن بسيط من مكتب لآخر على سبيل المثال - ناتجة من لا شيء - بل إنها محصلة لتقاعس وتراث إداري يضرب بعنف داخل هذه المؤسسات انطلاقاً من حفظ جمل ديبلوماسية تحمل شيئاً من الإقناع الوقتي وهي الجمل ذاتها التي يكررها كل كرسي من فترة لأخرى ويواجه بها المواطن تلو المواطن، وانتهاء بالقناعة الكاملة بصعوبة المغادرة والإحساس بأن التجديد وإحلال بديل شبه مستحيل طالما هو يوجد كل يوم على كرسيه ولا علاقة للبقاء بالإنتاجية!! وخشية مما يشبه ما مضى يبقى «التدوير الإداري» مطلباً ملحاً، وعلاجاً مثالياً لغالبية حالات السبات التي تنتاب إداراتنا ومؤسساتنا الحكومية، وليكن ذلك عبر مدة زمنية معقولة، ولو لم يكن هناك من نتيجة إيجابية إلا إعادة الدورة الدموية وبث النشاط، والحيوية واستحداث قرارات جديدة لكان ذلك كافياً، كيف ونحن الذين لا نعرف قراراً جديداً إلا بعد أن ترتكب الأخطاء أو تحدث كارثة! أعرف مواقع كثيرة لم يغادر مديريها لسنين طويلة بل يجدد لهم، ولم يأتوا بجديد على مدى هذه الأعوام باستثناء تغيير ديكورات المكاتب وتحسين الصورة المظهرية لتكون جديدة ومن ثم يمارسون الدور التخديري لكل من حولهم وهنا تكمن المفارقة، فالمدير اللوحة الضاربة في القدم من كل الجوانب لا يرى جديداً إلا في الجوانب التي من خلالها تغيب عن الصالح العام، وتتضاءل عبرها نسب النجاح. المظهر فقط هو ما بات مهماً لكل من هم على هذا الموال والمنوال، وأصبحت مساحة الأمل للصاعد من الجيل وصاحب الإمكانات والقدرة على التجديد والتفكير متضائلة وتنتظر شيئين إما «موت» أو «إحالة لتقاعد»، وهما الحالتان الوحيدتان اللتان عبرهما يغادر المدير بلا رجعة ويأتي المدير الجديد، وحتى نودع الأسلوب التقليدي في بوابات الإدارة، ونترك عشق المظاهر الفارض بطقوسه، علينا أن نقيد كل الكراسي الإدارية في المؤسسات الحكومية العملاقة والمواقع صاحبة القرار الرسمي الأول بمدة زمنية لا تتجاوز ست سنوات بأي حال من الأحوال، ويمكن أن تقلص هذه المدة إن كانت الإدارة أقل إمكانية، وأفراداً، ونسبة إنجاز، وأعتقد أنها مدة كافية، فمن تجاوز هذه السنوات الست كحد أقصى وهو لم يقدم شيئاً، أو بقيت نسبة إنجازه، وقدرات اتخاذه للقرارات المتناسبة مع الزمان والمكان متدنية، فمن الأفضل له، ولغيره أن يغادر لمكان آخر حتى يستعيد الأوراق ويرتبها، ويلتقط الأنفاس التي ربما لا تكون مهيأة، لأن تعمل في هذا الكرسي تحديداً، فلم يُجْبَر أحدٌ على القدوم باتجاه كرسي إداري ذات يوم، لكن لابد من أن يُجْبَر على المغادرة إذا كان الرجل غير المناسب في المكان المناسب بعيداً من لغة العاطفة، والانتماءات، والمصالح الشخصية حتى لا نغفو ونصحو، وإذ بكل مدير وهو يقول «لا» لكل الآراء!! [email protected]