يتعذر للعين أن تحيط باللوحة من النظرة الأولى، فالفنان التشكيلي إميليو طراد (ارجنتيني من أصل لبناني- من مواليد 1953) الذي نظمت له غاليري أليس مغبغب في بيروت معرضاً فردياً للمرة العاشرة، أودع أعماله أسراراً كثيرة تختبئ خلف جماليات المدن التاريخية القديمة بمناخاتها الرحيبة والمناظر البانورامية ذات الأعماق الشاسعة، فالاستعارات ذات الوجوه المتعددة والإيهامات والملابسات التي تحوك المضامين الإنسانية، سرعان ما تفتح المجال أمام قراءات متعددة للرموز الغريبة التي تنضوي عليها الموضوعات، وهي قراءات لا تنتهي عند حد، ولا يمكن تعليلها أو تفسيرها إلا كونها متأتية من مخيال شاعر رحالة ونزواته في استنباط الماضي من باب المعاصرة. تُحرك لوحات إميليو طراد، في مظهرها العام، لدى ناظريها الحنين إلى الماضي الكلاسيكي، غير أنها ترتمي في أحضان الرمزية، فهو ينشئ عالماً متكاملاً قوامه المنظر المديني الذي ينفتح للعين دفعة واحدة من خلال شرفة البيت، التي يشغلها إنسان وحيد يقف جامداً يتأملنا بصمت حاملاً بين يديه ساعة منبه كبيرة معطلة، وهو محاط بالطيور والنبات أو الدمى المكسورة، ومن خلفه تمتد المدينة ببيوتها وساحاتها وجسورها وأنهارها وكنائسها القوطية وأبراجها وقبابها العالية وحدائقها في نظرة بانورامية ساحرة. هكذا يضع الفنان ناظريه بين مسطحين متلاصقين أو بين حيرتين: المسطح الأول الذي يشغله النموذج الإنساني، والمسطح الثاني الذي يحيل إلى المدينة التاريخية القديمة بجمالها الأخّاذ تحت ضوء الشمس. غير أن الأمور ليست بهذه البساطة الوصفية، لأن الفنان يتلاعب بالمسافة بين القريب والبعيد والخطوط المستوية وتلك المنحرفة من خلال لعبة الضوء بانكساره القوي المعكوس باتجاهنا، في تآليف (أحياناً على نسق المثلث المقلوب) من شأنها أن تعيد العين لزاماً إلى عالم الشرفة المزدانة بأصص النبات والموتيفات التي لا تحصى، حيث يكمن الموضوع الذي يتراءى مبسطاً لكن مباغتاً. ثمة لغز في التعبير عن الأمكنة- الأزمنة، فالشرفة هي مقترب اللوحة التي نحن من روادها وأفرادها، وهي بالرغم من ذلك على شيء كبير من الخصوصية والتواضع والتقشف، والتعارض بين الضوء والظلمة يضعنا أمام زمنين وعالمين متقاطعين: عالم الداخل الحميم وعالم الخارج المتمثل بالمدينة الأثرية، عالم الحاضر وعالم الماضي، وبينهما الكثير من الأحجيات والرموز، كأوراق اللعب الساقطة سهواً على الأرض والحِبال ذات العقد التي تمتد بين ضفتي اللوحة والقطط المتأهبة للقفز من أعلى البناء إلى الهاوية وطيور الببغاء الأليفة أو العرّافات الثلاث اللواتي يكتنهن الغيب، فضلاً عن مشاهد الثيران والنعاج المتوقفة بذهول على رصيف محطة بين اتجاهي بيونس آيرس وليفربول. يتمتع إميليو طراد ببنية كلاسيكية متميزة لجهة الدقة في الرسم والتصوير. وهذه المرجعية الكلاسيكية لديه يصوغها من خلال إسقاطات معاصرة على قدر كبير من الاحتراف والنضج في الوسائل والتقنيات، وهي تعيدنا إلى محطات بارزة في عصر النهضة، منها ما يتعلق برؤية الفنانين الفلامنديين في إظهار العلاقة الملغزة بين مقدمة اللوحة وخلفيتها، لجهة انفتاح المنظور من داخل عالم الغرفة تدريجياً إلى مرحلة احتواء منظر المدينة، على النحو الذي يتبدى في روائع اعمال روبرت كامبان وجان فان آيك وصولاً إلى فرمير. يأتي ذلك مندمجاً مع الاشتغال على الإضاءة المسرحية، بطريقة معاكسة لإنارة الايطالي كارافاجيو إزاء النور- المعتم. في حين يظهر أن جمود الشخصيات وتموضعها وبروزها الناتئ، على صلة قوية بالنهضة المبكرة، لا سيما في أعمال مازاتشيو وبييرو ديلا فرنشيسكا. غير أن الإمساك بالتقاليد الكلاسيكية جعلته غير منقاد لها، بل متمرداً عليها، في محاولة لطرح رؤية رمزية جديدة قائمة على زرع الوهم البصري والشك، حتى في الحقائق نفسها على أنها آتية من عالم حلمي أو افتراضيّ. ومن هذا الباب تحديداً تدخل روح جيورجو دي شيريكو، لكأنها من الباب الخلفي لذاكرة الفنان إميليو طراد، وهو الذي أطلق ما سمي بالتصوير الميتافيزيقي من خلال تجسيده للمدن التاريخية الخاوية حيث الأبنية والتماثيل الرخامية الصامتة والظلال المروسة ونقاط الهروب المضلِّلة، عملاً بنصيحة الفيلسوف نيتشه في البحث عن الجمال اللاواقعي. في خضم هذه الذاكرة الوسيعة يؤكد لنا إميليو وجود مرجعية ما لشيريكو من خلال لوحة «كيفما تأتي»، التي يبعث فيها من جديد عالم الفنان الرمزي أرنولد بوكلن الذي سبق وألهم دي شيريكو نفسه، في إحداث عالم الغرائب والعجائب من خلال لوحة جزيرة الموت. لكن إميليو استبدل عالم الجزيرة بقباب ومنائر آيا صوفيا التي تأتي كخلفية للشرفة التي يطل منها رجل يحمل ساعة منبّه كبيرة وبجانبه يقبع ببغاء مع أصص النبات. إنه الزمن الذي تجمد في لحظة واحدة، وإنها ايضاً الحيرة المتأتية من المسافات والاتجاهات واللافتات، بين مؤشر سرعة الإنسان على الأرض وسرعة الطير في السماء. لكأن إميليو طراد يريد أن يقيس المسافة بين الحركة والسكون، بين التمثال المنصوب على برج عالٍ محاط بالحدائق والطير الذي يخترق عباب الفضاء، وهي ايضاً المسافة بين السطوح التصويرية في تسلسلها، كاختلاف الوقت الذي يفصل بين الكاردينال الجالس مطمئناً على الشرفة وبين محطة قطار سان لازار، كشعار للتنقل والسفر، لنكتشف أنه في تفاوت الزمن وتقاطعاته، شيء ما يضيع ويضمحل إلى الأبد.