تلوح في الأفق ملامح التسوية السياسية للأزمة السورية التي يعمل الأميركيون والروس عليها. وأولى الملامح الاتفاق على وقف إطلاق النار في منطقة جنوب سورية المحاذية للحدود مع إسرائيل والأردن، والتي سعت إيران وأذرعها الميليشيوية الشيعية إلى التمدد فيها من أجل السيطرة على هذه الحدود، ويقضي الاتفاق بانسحاب كل الميليشيات التابعة لإيران من المنطقة بعمق 40 كلم، وانتشار الشرطة العسكرية الروسية فيها. وهناك تكهنات بأن الاتفاق يشمل الدستور الجديد للدولة السورية وطبيعة الحكم فيها وتركيبته، والتنفيذ مرهون بالموافقة الروسية على عدم وجود أي ميليشيات أجنبية في سورية. وأتت العملية العسكرية التي قام بها «حزب الله» في جرود عرسال، وانتهت بمغادرة مسلحي «جبهة النصرة» الجرود اللبنانية إلى داخل الأراضي السورية، استباقاً للتسوية التي يتم إعدادها وذلك من أجل حجز مكان له ولراعيته إيران فيها. وواكب المعركة تضخيم إعلامي في محاولة لإظهار أهمية «الانتصار» الذي حققه مقاتلو الحزب ضد مسلحي «جبهة النصرة» الذين «وفق الإعلام الحربي للحزب» يقطنون التلال والوديان في منطقة وعرة وفي وضعية الدفاع في مواقع محصّنة، ولديهم كميات هائلة من السلاح والذخائر والمواد الغذائية، بينما مقاتلو الحزب في وضعية الهجوم ومكشوفو الصدور، بما يضفي هالة من البطولة والحرفية على مقاتلي الحزب الذين استطاعوا إنجاز مهمة تعجز عنها جيوش دول كبرى في أقل من أسبوع. بينما تشير الوقائع إلى غير ذلك، فمسلحو الجرود الذين يقدّر عددهم ببضع مئات هم في غالبيتهم من بلدات القلمون الذين فروا بعد أن احتل «حزب الله» بلداتهم ودمّر بيوتهم، وهم يعيشون في أوضاع صعبة وفي حصار من كافة الجهات منذ ثلاث سنوات، والأسلحة التي في حوزتهم من النوعية الخفيفة والمتوسطة، بينما كان عدد مقاتلي الحزب بالآلاف ومجهزين بالمدفعية والصواريخ الحديثة والمتطورة، وساندهم الطيران الحربي السوري ومدفعية الجيش اللبناني في معركتهم. ونستخلص، في قراءة أولية لمعركة جرود عرسال، الأمور الآتية: 1- أنهى «حزب الله» الجدل القائم منذ سنوات حول قرار الحرب والسلم، بأنه هو وحده صاحب هذا القرار، ولن يتخلى عنه للدولة أو يسمح لها بالمشاركة فيه. 2- أثبت الحزب الذي هو بمثابة ذراع إيران العسكرية في المنطقة أنه ليست لقمة يمكن ابتلاعها بسهولة، بل هو قوة عسكرية كبرى على المعنيين عدم الاستهانة بها. 3- القضاء على الجيب في جرود فليطا وجرود عرسال يصبّ في مصلحة إيران، ما يساعدها في تحسين أوراقها وقت المساومة. 4- حظيت المعركة بتأييد شريحة واسعة من المسيحيين، حتى من الذين كانوا يظهرون العداء للحزب. وجاء هذا التحول على وقع حسابات داخلية، واعتبارات مختلفة، وطموحات شخصية ومصالح مباشرة. ونتساءل ما إذا كان تأييد الشريحة السيادية للمعركة من ضمن الانضواء تحت سقف المحور الإقليمي الذي يرعى ما يسمى بتحالف الأقليات، أم بسبب طرد مجموعة إرهابية تحتل أرضاً لبنانية وتهدد الداخل اللبناني بعمليات إجرامية، والأيام المقبلة كفيلة بكشف الحقيقة وراء هذا الموقف الملتبس. 5- أثبت الحزب، بانكفاء الجيش اللبناني عن تحرير أرضه، أنه وحده المؤهل للقيام بمثل هذه المعارك، لكون الجيش «وفق ادعاء الحزب» لم يصل بعد إلى درجة عالية من التأهيل والجهوزية. واقتصرت مهمات الجيش على المساندة الميدانية للحزب بالمدفعية وحماية عرسال ومخيمات النازحين السوريين والقيام ببعض المهمات الإنسانية، بينما كان عليه القيام بهذه المهمة، لكونه المسؤول عن حماية الحدود والتصدي لكل معتدٍ عليها. 6- فرضت المعركة أمراً واقعاً تنسيقاً بين الدولة والنظام السوري و «حزب الله». وكان التنسيق واضحاً بين الجيش اللبناني والحزب، ما أعاد إلى الواجهة معادلة «الجيش والشعب والمقاومة». 7- شرعنة سلاح «حزب الله»، بحيث يعمد الحزب لاحقاً إلى المطالبة بشرعنة جيش المقاومة، إسوة بشرعنة الحشد الشعبي في العراق. 8- الغياب الكلي للسلطة اللبنانية، حتى أن بعضهم وضع الغياب في خانة الموافقة الضمنية على المعركة. وجاء الاحتجاج على المعركة الذي صدر عن بعض أركان السلطة متأخراً وخجولاً ولدواعٍ شعبوية. 9- أثبتت الوقائع تزايد نفوذ «حزب الله» وسيطرته أكثر فأكثر على كل مفاصل الحياة السياسية في لبنان. وأدت التسوية التي أتت بحليف الحزب ميشال عون رئيساً للجمهورية إلى خلل في التوازن السياسي الداخلي، مما زاد من نفوذ الحزب وأدى إلى تراجع في أداء الدولة. ونستطيع القول إن التسوية الرئاسية كانت تنازلاً كبيراً للحزب من الفريق السيادي. 10- كشفت تطورات المعركة عن عجز سياسي مطلق في كل المواقع الرسمية المقررة. كما كشف قيام الدولة بدور الوسيط بين مجموعتين مسلحتين عن عوراتها وضعفها وعدم سيطرتها على قرارها وعلى أراضيها. 11- تشير الدلائل بأن المعركة حظيت على غطاء إقليمي ودولي غير معلن. 12- أراد «حزب الله» من المعركة شدّ عصب الشارع الشيعي، والحفاظ على ولاء الطائفة له، وامتصاص نقمة المعارضين فيها لتدخله في الحرب السورية بسبب ما نتج عنه من عداء مع شريحة واسعة من السوريين ومن اللبنانيين على أسس مذهبية، ومن تداعيات العقوبات الأميركية في نسختها الثانية المتوقع صدورها قريباً على الطائفة وعلى الاقتصاد الوطني. 13- سيطرة «الحزب» على حدود لبنانالشرقية، ووصل المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري بلبنان، وتحديداً بمناطق تقع تحت نفوذ الحزب. والخوف بأن يكون ما حصل هو جزء من تقاسم النفوذ الإقليمي والدولي. والسؤال: ما هي المكاسب التي يريد الحزب تحقيقها لنفسه ولطائفته بعد هذه المعركة، خصوصاً أنه استطاع في الماضي تحقيق مكاسب كثيرة بعد كل عملية عسكرية في الداخل اللبناني، ومكاسبه في «اتفاق الدوحة» بعد عملية غزو بيروت ما زالت ماثلة للعيان؟ من المؤكد أن الوضع الداخلي سيتأثر بما حدث، وستحدث تداعيات على توازن القوى بين الفرقاء اللبنانيين، ومنها إخضاع الحزب المعارضين لسياسته ولولائه الإقليمي وتفرده بالقرارات المصيرية، مع تحوّل جذري في سياسة لبنان الخارجية، وربما في نظامه السياسي. * كاتب لبناني