تقرير دولي: السعودية تتفوق في معالجة تحديات سوق العمل    انطلاق ملتقى صناع التأثير ImpaQ بمشاركة عالمية واسعة    مفوض الإفتاء بمنطقة جازان "الحفاظ على مقدرات الوطن والمرافق العامة من أهم عوامل تعزيز اللحمة الوطنية"    رئيس الوزراء العراقي يصل إلى العُلا    جامعة الأميرة نورة تُطلق معرض "إطار" لاستعراض مشاريع الطالبات في صناعة الأفلام    ولي العهد يلتقي رئيس الوزراء العراقي    إمارة تزيل أكثر من 16 ألف تعدٍّ على أراضٍ حكومية    المركز العربي الأوربي يكرم الدكتور هادي اليامي    لغة الضاد - هوية وثقافة ندوة نظمها أدبي تبوك    وزير الصناعة والثروة المعدنية يختتم زيارة رسمية إلى مصر    استقرار أسعار الذهب    نائب أمير الشرقية يطلع على أعمال "الجمارك" في المنطقة    القرني يرافق والده بالمستشفى    ارفى تختتم برنامج "مراس" ودعم لثلاثة مشاريع فائزة من البرنامج    رئيس هيئة حقوق الإنسان تستعرض تطورات حقوق الإنسان في المملكة خلال الحوار المشترك السعودي الأوروبي    تجاوز صادرات «الخاص» 40 مليار ريال خلال الربع الثالث من 2024    رئيسة المفوضية الأوروبية: تكثيف الاتصالات مع النظام السوري الجديد    قاتل الجنرال الروسي.. أوزبكستاني جندته مخابرات أوكرانيا    الدكتوراه لرباب المعبي    محافظ محايل يلتقي مدير المرور الجديد    منظمة التعاون الإسلامي ترحب بقرار الجمعية العامة حول حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره    العاصمي : لدول الخليج دور ريادي في خدمة العربية وتعزيز مكانتها بين اللغات.    تعليم الطائف يطلق مهرجان الإبل بمشاركة واسعة من الطلاب والطالبات    الأمير تركي الفيصل يفتتح مبنى كلية الطب بجامعة الفيصل بتكلفة 160 مليون ريال    جمعية رتل بنجران تطلق التصفيات الاولية لجائزة الملك سلمان بن عبدالعزيز    القيادة تهنئ أمير دولة قطر بذكرى اليوم الوطني لبلاده    الإحصاء تنشر إحصاءات المنشآت السياحية للربع الثاني 2024    انطلاق نهائيات الجيل القادم لمحترفي التنس... اليم    مصرع 14 شخصا جراء زلزال فانواتو    كشف حقيقة الأجسام الطائرة في سماء نيوجيرسي    الدفاع المدني : أمطار رعدية على معظم مناطق السعودية حتى السبت المقبل    يكفي السعودية فخراً    سبعة آلاف عملية جراحية في مستشفى الملك سلمان    إقامة دورة التصوير والمونتاج الميدانية لذوي الإعاقة السمعية في جازان    سعود بن بندر يطلع على خدمات "هبة لمتلازمة داون"    علامات الزواج من رجل يميل للعنف والعدوانية    أمير تبوك يستقبل مدير فرع وزارة الرياضة بالمنطقة    «العليمي»: السعودية حريصة على تخفيف معاناة الشعب اليمني    برئاسة الفيصل.. ألبانيا تحتضن اجتماعات الاتحاد الرياضي للتضامن الإسلامي    الأخضر يكسب ودية ترينيداد وتوباغو بثلاثية    تدشين المخيم المجاني لجراحة العيون في المستشفى الميداني السعودي في سقطرى    استدراك ما أُهمل من تراثنا العمراني !    وزارة الثقافة تحتفي اليوم بإبداعات الثقافة العراقية في النسخة الثانية من مهرجان "بين ثقافتين"    «ثورة الفن».. كيف يمكن تحقيق التوازن بين النجاح المادي والشغف    استطلاع: تراجع الثقة في النظام القضائي الأمريكي    أبرز ملامح سلم رواتب الوظائف الهندسية    "معرض جدة للكتاب" يستحضر سيرة وعبق تاريخ كسوة الكعبة المشرفة    شركة الدرعية: 758.8 مليون ريال لإنشاء عدة أصول حيوية    محمد بن ناصر يدشّن برنامج "مبادرات المناطق"    تفعيل خدمة البريد الدوائي المجاني في مستشفى الملك خالد    «هانا المرعبة».. مخاطر قلة النوم    5 فوائد للمشي إلى الخلف    بحضور تركي آل الشيخ.. انطلاق أسبوع الملاكمة لنزال «Fury vs Usyk Reignited»    الخليج يخوض ثلاث وديات في معسكر قطر    أمير تبوك يستقبل مدير فرع وزارة الرياضة بالمنطقة    مُخ العبادة    الأمير فهد بن سلطان يستعرض مخطط تبوك وتيماء    تدشين مبادرة "اللحمة الوطنية دين ومسؤولية" بمحافظة أحد المسارحة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«هوليوود» بوكوفسكي وبريقها المزيّف
نشر في الحياة يوم 03 - 08 - 2017

«بعد يومين اتصل جون بينشو وقال إنه عازم على البدء في مشروع السيناريو، وعلينا أن نذهب لزيارته. أخذنا منه العنوان، ركبنا سيارة الفولكس واتجهنا الى «مارينا ديل ري» حيث يقبع مكانه المجهول. هكذا من دون مقدمات، ومن دون أن يعلمنا الكاتب عما حدث قبل اليومين المشار إليهما، يستهل تشارلز بوكوفسكي روايته «هوليوود» ليهتك عبر ما يزيد على الصفحات الثلاثمئة كل ما علق في أذهان المقيمين فوق هذا الكوكب من صور مسبقة ونمطية عن المدينة التي أخرجتها صناعة السينما من سياقها الواقعي لتصلها بالسحر وعالم الأحلام وفانتازيا الشهوات التي لا تهدأ».
قد لا يفاجأ الذين قرأوا بوكوفسكي في أعماله الروائية والشعرية الأخرى بعزوفه عن تجميل الواقع وتمويهه عبر محسنات اللغة ومساحيقها، ولكنه يوغل هنا في الحفر عن القاع السافر والآهل بالأمراض والتشوهات لإحدى أكثر مدن العالم ثراء ولمعاناً وإثارة للفضول. كل ذلك يتم بلا وسائط ولا أقنعة، وبلغة مكشوفة ومباشرة تشير الى الحياة كما هي في الواقع، لا كما تريد لها لغة الأدب والشعر أن تكون. وبوكوفسكي من هذه الزاوية لا يبتعد كثيراً عما سمي قبل عقود بتيار «الواقعية القذرة» في الأدب الأميركي.
يتحدث بوكوفسكي في روايته عن كيفية صناعة الأفلام في عاصمة السينما الأميركية من خلال كاتب من أصل ألماني يدعى هنري شيناسكي الذي يناديه أصدقاؤه باسم هانك، والذي تتوزع اهتماماته بين الرواية والقصة والمسرح والشعر وتتمادى في جرأة مواضيعها ولغتها الى حدود التهتك. وإذ آمن صديقه المخرج جون بينشو بموهبته الفذة التي تلائم ذوق مواطنيه في هوليوود، فقد طلب اليه أن يعد سيناريو لفيلم سينمائي يتولى هو بنفسه إخراجه. لن يتردد هانك المولع بالمغامرة، والذي يفرد للشراب وللرهان على الخيول الكثير من وقته، في قبول المهمة التي اعتقد واهماً أنها ستدر عليه في حال نجاحها الكثير من المال والشهرة الإضافيين. غير أن المؤلف والمخرج سرعان ما يجدان نفسيهما إزاء متاهة من الابتزاز والاستغلال والنكث بالعهود لا نهاية لها. ومع أن هانك لم يتأخر كثيراً في اختيار قضية الادمان على الشراب التي يجد بطله الرئيسي نفسه غارقاً في دوامتها موضوعاً له، إلا أن السيناريو المنجز بسرعة قياسية سيأخذ الى التنفيذ طريقاً لولبياً ومعبداً بالمراوغة والمشقات. فبعد أن وقع هاري فريدمان صاحب شركة «فاير باور» عرضاً متواضعاً لانتاج الفيلم المقترح عمد الى تقليص التكاليف الى الحدود القصوى، قبل أن ينفض يديه من الموضوع بحجة ضعف السيناريو وبذاءته الصادمة. ومع ذلك فإن فريدمان طالب جون بينشو بغرامة مالية باهظة بعدما حصل على عرض بديل من شركة «أدلمان» للانتاج. الأمر الذي دفع بينشو الى الاعتصام أمام مكتب فريدمان مزوداً بمنشار حديدي ومهدداً بقطع أعضائه الواحد تلو الآخر، ما لم يتراجع صاحب شركة «فاير باور» عن ابتزازه له. لكنّ مفاجأة أخرى تظهر في الواجهة حين تتخلى شركة أدلمان عن انتاج الفيلم، الذي أعطاه هانك عنوان «رقصة جيم بيم»، لمصلحة شركة «فريدمان» لقاء سبعة ملايين دولار.
لم تنتهِ قصة السيناريو التي تختزل عالم هوليوود المملوء بالدسائس والذي لا سلطة فيه أعلى من سلطة المال، عند هذا الحد. إذ يظهر في الرواية عنصر إثارة جديد يتمثل بمطالبة رجل أعمال ثري بفسخ العقد الموقع في شأن الفيلم المرتقب بدعوى تنازل هانك له في مرحلة سابقة عن جميع حقوقه الأدبية وعلى امتداد عمره بكامله.
ولم يبدأ الاشتغال على العمل إلا بعد استعطاف هانك رفيق صباه بغية التخلي عن مطالبه. وحيث يتم التصوير في حانة الفندق القديم الذي كان الراوي يرتاده في صباه، يستعين هانك بالأشخاص أنفسهم الذين كانوا يشاطرونه جلسات السمر والشراب والمنادمة، لنعلم بعدها أن الفندق المذكور لن ينتظر طويلاً بعد انتهاء التصوير قبل أن يتم هدمه، ليقوم على أنقاضه أحد الأبراج الشاهقة التي تجعل من هوليوود الرومانسية القديمة أثراً بعد عين. بعدها لن يأخذ إنجاز الفيلم أكثر من شهر واحد وبضعة أيام، توفيراً لأموال الشركة المنتجة، وتنفيذاً للعقد المبرم بين أطرافه.
وفي العرض الافتتاحي للعمل يتحلق جمهور المعجبين والمعجبات حول بطليه الرئيسيين جاك بيلدسو وفرانسين باورز، في حين يتوارى المؤلف مع زوجته سارا في الظل من دون أن يجد من يعبأ به، حيث يطرح بوكوفسكي اشكالية العلاقة غير المتكافئة على مختلف الصعد الاعلامية والمادية بين الممثل والكاتب. أما في حفل الكوكتيل الذي يعقب العرض، فيكتشف هانك أن مئات الحاضرين الذين احتشدوا في المكان لم يحضروا لمجرد الاحتفاء بالفيلم الناجز، بل للتنقيب عن وجوه فنية جديدة والبحث عن عقود وصفقات مربحة، حيث المال والجنس والسياسة لا الموهبة العالية هي المفاتيح الأهم للنجاح في المدينة التي تصنع بريق العالم المعاصر. وهو ما يدفع الكاتب-الراوي للسؤال عمن سيعمل في هذه المدينة بستانياً أو سائق تاكسي أو جابياً للضرائب، اذا كان كل سكانها يرغبون في أن يكونوا ممثلين أو مخرجين أو منتجين أو نجوماً ومشاهير.
ليس في أعمال بوكوفسكي من مسافة شاسعة بين الأدب والحياة المعيشة، كما لا نلحظ مسافة موازية بين فن الرواية وفن السيرة. فالكاتب يعتبر أن فجاجة المجتمع الأميركي المتأتية من الركض المنهك وراء النفوذ والمتعة والشهرة وجمع الثروات لا يمكن أن تواجَه بلغة التهذيب الجم والأناقة الباذخة، بل باللغة إياها التي يستخدمها المتكالبون على الشهرة وتكديس الثروات في شوارعهم وبيوتهم ومكاتبهم ومداولاتهم اليومية. وإذا كان البعض رأى في مجمل مؤلفات صاحب «تهرب الأيام كالأحصنة البرية فوق التلال» فصولاً من سيرته الذاتية، فإن رواية» هوليوود» من جهتها لا تبتعد من هذا السياق، حيث أن قصة «رقصة جيم بيم» ليست سوى نسخة روائية شبه مطابقة لقصة فيلم «زبون البار» التي كتبها بوكوفسكي للسينما. كما يكشف المترجم عبدالكريم بدرخان في نهاية الرواية عن أن هنري شيناسكي لم يكن سوى بوكوفسكي نفسه، فضلاً عن التطابق المماثل بين أسماء أبطال الرواية والأسماء الواقعية لعشرات المشتغلين في صناعة الأفلام في الحقبة ذاتها. واذا كان آخرون أيضاً قد لاحظوا أن الرواية تنضح بلغة الشتائم السوقية والتشبيهات الكاريكاتورية الصادمة، فلأن المرارة التي كانت تعتمل في أعماق الكاتب لم يكن ليمكنه احتمالها بغير السخرية من نفسه كما من جميع المحيطين به ممن أطلق عليهم أوخم التشبيهات والنعوت. إن الأدب الحقيقي وفق بوكوفسكي هو ذلك الذي لا تكون لغته «أدبية» وواقعة تحت سطوة التأنق والجمال الباذخ، ما دامت الكتابة في الأساس هي مضبطة اتهام ضد فساد الواقع وتهافت العلاقات بين البشر.
ورأى الكاتب أن المجزرة المروعة التي ارتكبها جيمس ماسون في سبعينات القرن الفائت ضد عشرات المواطنين الأبرياء ليست سوى الجزء الظاهر من جبل الجرائم الأفظع التي ترتكب كل ساعة بحق المبادئ الإنسانية والبشر المطحونين تحت السنابك العاتية للمجتمع الرأسمالي. ثمة إذاً وراء سلاطة قلم بوكوفسكي وبذاءة لغته قدر غير قليل من السخط والاحتجاج والتبرم بالواقع، وهو الذي يقول في أحد حواراته «الكتابة هي نشوتي العظمى، وهي وحدها التي أبقتني على قيد الحياة».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.