كنتُ أضيقُ ذرعاً بالكُتّاب الذين وبدعوى من الحياة العصريّة يفرطون في تصوير الكُتب والقهوة، وكنتُ أعتقد أني ضد الإفراط في التقاط الصور، ثم اكتشفتُ لاحقاً أن لديّ أنانية نوعيّة، وأن مهمتي عكسيّة، مهمتي: عدم الإفصاح عن الكتب الجميلة. كل لحظة ثقافية لها مساحتها من الغموض، ومن العبث أن تخبر الآخرين بالكتب الجميلة التي عثرت عليها، الكتب التي قرأتها، ثم لماذا أقوم بهذا الدور المقيت.. أحول بين البشر وبين فرصهم في تلقي المفاجأة؟! أو الإحساس بالاكتشاف!! لماذا أعيق فرصهم في الندم على الوقت المهدور في قراءة كتاب؟! قرأتُ/ الكتاب المميز الذي قرأته/ ماذا أقرأ الآن...لا أريد أن أكون سخيّة لهذه الدرجة!! أشعر بمسافة تبعدني عن نفسي كلما هممتُ بالدخول في هذه اللعبة، أعني عرض خريطة قراءاتي للآخرين، التي تقترح بدورها خريطة قراءة للآخر،لا أريد أن أكون سخيّة لهذه الدرجة، أريد أن تكون لدي حربي الخاصة، حربي الناعمة: (عدم الإفصاح عن الكتب) إنها إحدى مآثري الصغيرة؛ كي لا نصحو ذات يوم على نسخ كثيرة تسير في الاتجاه نفسه وفق المزاج ذاته تقريباً أو ما يشابهه. أنا في سكر مُكتمل: أكتب وعلى غير العادة أستمع لموسيقى لا تشبهني كثيراً، وكعادتي الغريبة حين أكتب أبكي بدون سبب محدد وواضح، بجانبي كتاب لم أكمل قراءته ولا أدري إن كنتُ سأكمل قراءته، كتاب عثرتُ عليه كما يعثر الإنسان على محبة ما.. بالصدفة عثرتُ عليه بينما كنتُ أبحث عن شيء آخر. يا كتابي المغلق، أنا كتابك المفتوح، هل تشهد الحياة التي أشهدها الآن؟ حياة حديثة، عصرية جداً، تتقاطع مع الجمال كثيراً، لكن كل شيء فيها مُتاح، متاح دائماً، متاح أبداً، كل ما يضيع يستعاد، ما يتشوه يعاد إنتاجه مكتملاً، الغائب له بديل مشابه في النوع، استحدثت الحياة أشكالاً جديدة للحضور لا تخضع لقوانين الفيزياء، وحده الخيال قليل، التخمين، قلق الاحتمالات والمفاجأة أيضاً. هل تشهد مثلي هذه الوفرة الموجعة؟ الكتب كثيرة، القرّاء كُثر، الأحبة كُثر، الأصدقاء بالملايين!! عالم مخيّب، لا تحتاج فيه للصدفة، للمفاجأة، لا شيء فيه موارب أو ملتبس وغامض، هذه هي الطبعة الجديدة من الحياة بلا انتظار ولا ارتباك ولا ترقب.. «لنبكِ يا حبيبي.. فقد نسينا نعمة البكاء من زمان». استغنيت عن مكتبتي، تخففت من كتبها، وما تبقى علبته في صناديق، صارت لديّ (مكتبة معلبة)، ما رأيك في هذا المصطلح المجنون؟ المكتبة المعلبة.. ما رأيك في شخصيتي الجديدة؟ أنا أعرف أني أعجبك حين أكتب، لا يهم هذا خروج على النص، المهم أن ما يحدث الآن هو أن رغبتي في قراءة كتاب منها تعني مشقة فتح الصناديق واحداً تلو الآخر للعثور على الكتاب المنشود، ومشقة إغلاق الصناديق مجدداً. ما الذي يحدث لي هذه الأيام؟ سأفترض أن الأمر يعنيك؟ ما يحدث أن لديّ هواجس على نحو غير اعتيادي، الكتب مثلاً تحاصرني في كل مكان وأهرب، الكتب تأتيني على طبق من ذهب وأهرب، حين يقترح عليّ أحدهم كتاباً ينتابني هلع مفاجئ، وأخاف أن أكون مضطرة للإفصاح عن كتبي المفضلة.. أرتبك وشيئاً فشيئاً أفقد قدرتي على التحكم في انفعالاتي، أتهاوى وأجدني على المقصلة. بالمناسبة لا أزال أشاهد الأفلام أكثر من قراءة الكتب، ومؤخراً أخبرني أحد الأصدقاء أن أحدهم قال: «السينما هي كتب العصر الحديث»، ما الذي أفعله الآن؟ أفرط في شرب الشاي، أنا في مرحلة الكوب السادس تحديداً، لديّ كل شيء تقريباً، ما عليّ إلا أن أحافظ على حصتي من المصادفة والمفاجأة والكتب الجميلة والأصدقاء، والحب.. أنتَ تعرف أنها أشياء لا تتكرر كل يوم. هامش: 1- «لنبكِ يا حبيبي فقد نسينا نعمة البكاء من زمان» من قصيدة لنزار قباني. 2- «السينما هي كتب العصر الحديث» مقتبس نسيت قائلة.