يعود جابر عصفور بموافقته على تولي منصب وزير الثقافة في مصر إلى قمة المجلس الأعلى المصري للثقافة الذي ظل أميناً عاماً له لمدة 14 عاماً، ويترك المركز القومي للترجمة الذي تولى منصب مديره عقب تأسيسه في آذار (مارس) عام 2007 بقرار جمهوري. ذلك ما يبدو على السطح، ولكن في العمق يبدو أن حظاً عاثراً هو الذي قاد عصفور إلى ختام نشاطه العام وزيراً في نظام حكم يُحتضر، باعتراف الأصدقاء والخصوم، على حد سواء. وفي أول ظهور إعلامي له خلال مقابلة مع تلفزيون «الحياة» مساء الأربعاء الماضي، بدا عصفور مدركاً تلك الحقيقة حين سأله مقدم برنامج «الحياة اليوم» الزميل شريف عامر عما إذا كان يفضل أن يخاطبه ب «معالي الوزير»، فقال له: «أنا الدكتور جابر أولاً وأخيراً»! ويقول عصفور إنه تردد في قبول هذا المنصب، الذي طالما رشحته الإشاعات عند كل تعديل وزاري خلال العقدين الأخيرين لتوليه خلفاً لفاروق حسني، لكنه حسم أمره سريعاً، على اعتبار أنه لا يمكن أن يعصي لرئيس الدولة أمراً، وفق ما جاء على لسانه في المقابلة التلفزيونية نفسها. وفي تلك المقابلة أيضاً ذهب عصفور بعيداً في انتقاد الحزب الوطني الحاكم، وهو الحزب الذي يتزعمه الرئيس مبارك نفسه منذ نحو ثلاثين عاماً، والعنف الذي يُمارس ضد المتظاهرين، لكنه لم يبلغ مع ذلك سقف تطلعات من تحركوا منذ يوم 25 كانون الثاني (يناير) الماضي من أجل «التغيير الشامل». عصفور قال إن الصادقين بين المتظاهرين المطالبين بالتغيير لا يزيد عددهم على خمسة آلاف شخص وإن بينهم تلاميذ له وإنهم جهروا «بما لم نكن نجرؤ على الجهر به»... «لكن عليهم أن يعودوا إلى منازلهم»، وهي الدعوة نفسها التي يرددها الإعلام المصري على مدار الساعة من دون جدوى. ويرفض عصفور التسليم بصحة معلومات تؤكد أن من خرجوا قبيل المقابلة التلفزيونية مباشرة على ظهور جياد وجمال للتصدي بعنف مفرط للمطالبين بتنحي الرئيس مبارك مدفوعون من متحالفين مع النظام المترنح، وقال إنهم ليسوا سوى المتضررين من الشلل الذي أصاب قطاع السياحة بسبب الأحداث المتصاعدة! وإضافة إلى الظرف الاستثنائي الذي تمر به مصر والذي يجعل قبول عصفور منصب وزير الثقافة أمراً مستغرباً في نظر حتى أصدقائه وفق ما ذكره في المقابلة التلفزيونية، فإن وزارة الثقافة في عهده الذي لن يزيد على بضعة أشهر، وربما أقل من ذلك في ضوء التطورات المتلاحقة على الأرض، فقدت «شريان الحياة» بعد فصل المجلس الأعلى للآثار عنها ليتحول إلى وزارة تولاها الأثري زاهي حواس. ومعروف أن الكثير من أنشطة وزارة الثقافة المصرية في عهد فاروق حسني الذي بدأ في العام 1987 ومنها مهرجانات وملتقيات دولية للسينما والمسرح والأدب كانت تعتمد على ما تضخه سياحة الآثار. الهجوم الذي استهدفه من كل صوب وحدب لموافقته على الانضمام إلى التشكيلة الجديدة للحكومة المصرية قال عنه عصفور إنه يشبه ما تعرض له عندما تولى منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة والذي خفّت حدته بعد ما حققه من إنجازات، أهمها المشروع القومي للترجمة ومضاعفة قيمة جوائز الدولة. وفي خضم ذلك الهجوم، الذي قال عصفور إنه لا يأبه له، كانت هناك أصوات تشفق على صاحب كتاب «زمن الرواية» من «الحمل الثقيل» الذي قبل تحمله في ظل ظروف استثنائية تعيشها البلاد وفي ظل حاله الصحية التي ليست على ما يرام، وتحيي تلبيته «نداء الوطن»، وتعتبرها «قراراً شجاعاً يحسب له لا عليه». وعقب حلفه اليمين الدستورية أمام الرئيس مبارك بادر صاحب كتاب «هوامش على دفتر التنوير» إلى عقد اجتماعات عدة مع قيادات وزارة الثقافة، مؤكداً أنه وجّههم إلى «الاهتمام بالشباب لتحقيق طموحاتهم وتبني أفكارهم، بالإضافة إلى التركيز على استخدام وسائل التثقيف كافة التي تساهم في تصحيح الوعي الفكري للمصريين جميعاً، كتكريس قيم الدولة المدنية الحديثة وثقافة المواطنة والديموقراطية وتداول السلطة وثقافة الاختلاف والحوار الهادئ المتعقل»، وفق ما نقلته عنه وكالة أنباء الشرق الأوسط الرسمية يوم الخميس الماضي. وزار عصفور فاروق حسني في منزله صباح الثلثاء الماضي. ونُسب إليه القول إن الرئيس مبارك «كان ولا يزال السند الرئيسي للمثقفين والمفكرين على مختلف انتماءاتهم». وانتقد فاروق حسني فصل الآثار عن وزارة الثقافة واعتبر أنه «أمر يدل على نظرة ضيقة للأمور»، وتوقع أن يضع صعوبات جمة في وجه نشاط الوزارة على اعتبار أنها كانت تعتمد كلياً على الدعم الذي كانت تحصل عليه من دخل الآثار. وقال عصفور إنه يدرك أن الحكومة التي انضم إليها هي حكومة انتقالية ستستمر في أحسن الأحوال حتى نهاية ولاية الرئيس مبارك الحالية في أيلول (سبتمبر) المقبل وأنه مع ذلك سيعمل على استحداث سياسة الانتقال من مركزية القاهرة للانتشار في الأقاليم والمحافظات المصرية المختلفة. وشدد على أن «إعادة تثقيف المصريين» هي عمل جماعي وأشبه بكونه «طائراً بجناحين»؛ الجناح الأول هو الحكومة ومؤسسات الدولة، والثاني هو مؤسسات المجتمع المدني، مشيراً إلى أنه سيتم تفعيل بروتوكول التعاون الذي أبرم العام الماضي بين وزارتي الثقافة والتربية والتعليم في هذا الشأن. وأضاف أن وزارة الثقافة لن تترك وزارة أخرى أو مؤسسة من مؤسسات الدولة إلا وسيتم الاتفاق معها في ما يتعلق بالتثقيف «حتى يصل شعاع وزارة الثقافة ويمتد ليصل إلى فئات المجتمع المصري كافة». وذكر أن وزارة الثقافة ستبدأ أيضاً بالتواصل مع هيئات ومنظمات المجتمع المدني التي تستوعب عدداً كبيراً من الشباب ك «ساقية الصاوي» للتعاون معها. وأوضح أنه سيعيد النظر في أهداف ومحاور مؤتمر المثقفين الذي تجرى مساع رسمية لعقده منذ أكثر من عام في ضوء المستجدات على الأرض. وقال إن وزارة الثقافة ستستحدث لجنة للشباب وإدارة للاتصالات الإلكترونية واستخدام الوسائل الحديثة للتواصل مع الشباب، الذي يؤمن بالدولة المدنية وما يرتبط بها من الديموقراطية وتداول السلطة وحقوق المواطنة. وبالنسبة إلى الدورة ال43 لمعرض القاهرة الدولي للكتاب التي كان مقرراً افتتاحها يوم 29 كانون الثاني (يناير) الماضي، قال عصفور إن افتتاح هذا المعرض «رهن بضوء أخضر من أجهزة الأمن ومجلس الوزراء». وأشار إلى أنه لا يوجد حالياً مكان شاغر في قطاعات وزارة الثقافة، سوى الهيئة العامة للكتاب التي يشرف عليها رئيس دار الكتب والوثائق صابر عرب موقتاً، والأكاديمية المصرية للفنون في روما بعد إسناد قطاع الفنون التشكيلية الى رئيسها السابق أشرف رضا، مؤكداً أن هناك مشاورات مستمرة لتعيين شخصين مناسبين في المنصبين. وتولى الدكتور فيصل يونس حالياً منصب مدير المركز القومي للترجمة بصفة موقتة لحين صدور قرار رسمي في هذا الشأن. وكان يونس يتولى منصب رئيس المكتب الفني في المركز القومي للترجمة ورئيس قسم علم النفس في كلية الآداب في جامعة القاهرة، وهو أيضاً مقرر لجنة علم النفس في المجلس الأعلى المصري للثقافة.