يميل الكثيرون من متابعي الأحوال العربية إلى طرح تصورات نمطية عن مآلات الأحداث التي تشهدها المنطقة، وبخاصة في ظل حالة الحراك (الثورية) المستجدة، وحالات التململ (الواعدة) التي تشهدها بعض البلدان. فثمة من يرسم نسقاً مشابهاً لحالة أوروبا الشرقية عشية انتفاضة بولندا، وآخرون يجهدون في بناء سياقات تقارب الوضع العربي من زاوية التحولات السلمية التي شهدتها أميركا اللاتينية في العقد الماضي. وواقع الأمر يشي بأن المشهد العربي يفتقر إلى معطيات عدة توافرت في المقلبين، الاوروبي الشرقي والأميركي اللاتيني، وكان لها الدور الفاعل في إحداث المتغيرات، وإيصال حراكات تلك الأطراف إلى أهدافها. ولعل أهم هذه المعطيات، الافتقار إلى التقنية اللازمة لتحويل الرغبة في التغيير، من أطرها الفكرية والشعاراتية، إلى دينامية سياسية واجتماعية قادرة على تشكيل الروافع الحقيقية للانتقال السلمي والهادئ للمجتمعات إلى واحة الديموقراطية. لقد أثبت واقع التجربة الديموقراطية، كما تمت معايشتها في المجتمعات التي أنتجتها وانتهجتها معاً، أنها عملية متكاملة معقدة وكثيرة التفاصيل، وهي أشبه بماكينة هائلة لكل جزء فيها، مهما صغر، دوره الهام في عملية التشغيل، كما أن لها سياقاتها ومساراتها وبيئتها الحاضنة. وتلك اشتراطات لا يمكن إغفالها وتجاوزها، ولا يمكن من دونها بناء ديموقراطيات حقيقية وثابتة. ولعل من أهم اشتراطات الديموقراطية، توافر الحاجة اليها، وليس الرغبة وحسب. والحاجة الى الديموقراطية تمليها تطورات المجتمعات الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي الفكرية. فالديموقراطية حاجة ملحّة لمجتمعات تنشط فيها المبادرات الفردية حيث يصبح الساعون إلى أوضاع أفضل أكثر تململاً من القيود التي تفرضها قوانين السلطات والمجتمعات، وتتحول عملية تراكم المبادرات الفردية إلى ظواهر اجتماعية تصبح معها الديموقراطية جزءاً مكملاً من آليات النهوض الاجتماعي. هكذا كانت الديموقراطية في أميركا، ربما مهدها الأول: فالبيئة الاميركية هيأت الشروط المناسبة لصناعتها، وفي مقدم تلك الشروط الحرية، لا الحرية الطبيعية التي قال بها آدم سميث، بل الحرية الاصطناعية، والمقصود بها الحرية السياسية، والمبادئ، والمؤسسات الملائمة للجمهورية الجديدة. وربما كان ما يؤكد نجاح بعض التجارب التاريخية للديموقراطية، نشوءها في سياقات سياسية بحتة، تبدأ مع تكون الجماعات السياسية والتعود على المناقشة والحكم على الأمور العامة، وحتى وجود تجارب عملية في الحكم والحكم الذاتي. وما يدلل على ذلك ان الثورات ذات الجذور غير السياسية، الدينية مثلاً، لم تصل إلى إنجاز الحالة الديموقراطية (مثال الثورة الإيرانية). والحال أن الديموقراطية، وبوصفها عملية متكاملة بميكانيزمات سياسية واقتصادية واجتماعية، لا تعدو ان تكون صناعة لها تقنياتها الخاصة، والتي لا يمكن توافرها من دونها. وهذه العملية يتم إعلان براءة اختراعها في العقد الاجتماعي الذي تتم صياغته بين السلطة والمجتمع، بحيث يصبح تتويجاً لعملية ناجزة، وليس بداية لمرحلة مرغوبة على ما تعكس الدساتير العربية. فالأخيرة تراكمت منذ عهود الاستقلال من دون ان تنتج حالة ديموقراطية واحدة، ولسوء الحظ لا يملك الواقع العربي، الثائر والمتململ، سوى إعادة إنتاج ذلك النمط من الوثائق التي لا تضمن تحقيق الديموقراطية المنشودة. * كاتب فلسطيني.