يؤكد الفيلسوف الفرنسي لوسيان ليفي برول في كتابه الشهير «العقلية البدائية» أن ذهنية الإنسان البدائي مزدحمة بالأرواح والقوى الخفية التي تخدم الخير والشر، فبعكس إنسان العصور الحديثة الذي يميل إلى البحث عن أسباب الأحداث وفق قوانين الطبيعة كان البدائي يبحث عمّا هو فوق الطبيعة، فحين يرى طفلاً يموت بينما المسن لا يزال على قيد الحياة، ويرى صاحب المرض الخطر يعيش طويلاً، فيما يموت شخص سليم بالمرض نفسه فجأة لا يمكنه رد ذلك لأسباب منطقية أبداً، وإنما ينسبه لأسباب روحانية غيبية غامضة، ويفسره على أنه ضغينة عدو خفيّ، أو فشل للضحية في استرضاء الآلهة.! أما وليم وودز مؤلف «تاريخ الشيطان» فيشير إلى أن كل حادثة يبدو لنا أنها وقعت بالمصادفة، هو بالنسبة للبدائي عظيم الأهمية ومؤذٍ ونتيجة لتدخل أطراف من خارج العالم في حياة البشر، وقد يكون الطرف الخارجي عدواً كالشيطان، الذي اعتقد بعض البدائيين أنه استخدم الصواعق كسلاح لحرق منازل كثير من البشر ومواشيهم، وقد يكون الطرف الخارجي آلهة تحارب الأعداء والأتباع على حد سواء، بهدف القضاء على الأولين وتأديب الآخرين!ولذلك فقد كان لدى الإنسان البدائي ذي العالم المزدحم بالأرواح والقوى الخفية الغامضة شعور دائم بأن جميع الأشياء من حوله في الطبيعة مجرد عيون لمراقبته، وقد تتحول إلى أسلحة تُستخدم ضده في أي لحظة، فكان يعتذر للحيوان قبل اصطياده وذبحه ويتوسل إليه أن يغفر له فعلته، لأن جوع أطفاله هو من قاده لذلك، وقد يقيم معه علاقة صداقة حميمة لفترة قبل أن يأكله ويطعم أطفاله من لحمه، كما يجب أن يتأكد من تجاوب الحيوان مع هذه العلاقة بالرضا، وإن فشل في ذلك فسيلجأ إلى السلطة، التي يعتقد أنها الأكبر في منظومة هذا الحيوان لاسترضائها وذبحه بشكل سريع (بالضبط كما يفعل شخص ما عندما تتعقد معاملته على يد موظف صغير في إحدى الإدارات الحكومية، فيتوجه لمديره ويحلها، ثم يعود للموظف للسخرية منه). هكذا كان الإنسان البدائي، الذي نتأكد في كل يوم أن لذهنيته الصغيرة المحشوة بالخرافات والفوبيا ورثة شرعيين في مجتمعنا الحديث، وقد نجد أنفسنا أحياناً (أنا أو أنت ياصديقي القارئ الغارق في عصر التكنولوجيا) رهائن بالمصادفة لمخلفات تلك الذهنية الساذجة، وأرجو لا يثير ذلك استغرابك أو حنقك عليّ، فمازلت أتذكر أنني أقسمت ذات يوم في طفولتي لأحد المعلمين أنني أجريت مكالمة هاتفية مع الشيطان، وأن إبليس ظل يصرخ في وجهي من دون أن يقبل بالحوار معي أو يجيب عن أسئلتي، ومازلت أتذكر ملامح ذلك المعلم حينها وكيف أنه كان ميالاً لتصديق الحادثة، لدرجة قيامه بالقراءة علي والنفث في وجهي مطالباً إياي بقراءة المعوذات بشكل مستمر، لكنني لم أقتنع، ووزعت رقم الشيطان على زملائي في الصف الذين عادوا في اليوم التالي بين مندهش وخائف ومسوق للرقم، ليكشف لهم أحد المعلمين لاحقاً أن الذي كان يرد عليهم حين اتصالهم على ذلك الرقم شيطان عصري مفيد للبشرية اسمه (الفاكس) وأن ما سمعوه ليس سوى نغمة استقبال ذلك الجهاز. حسناً.. لماذا أتحدث عن ذهنية الإنسان البدائي اليوم؟! يمكنكم التعرف على إجابة هذا السؤال بقراءة بيانات وردود فعل ملايين البدائيين في السعودية على الكارثة التي ضربت جدة، حين تسابقوا للميتافيزيقيا وفسروها على أنها معركة بين الإرادة الإلهية وجنود الشيطان، ولم يسألوا أنفسهم لماذا كان ضحايا المعركة من خارج الطرفين المتقاتلين، فعلى حد علمي لم يتم اكتشاف أي جثث لملائكة أو شياطين في مخلفات السيول، ولا تزال الملائكة في السماء والشياطين على مكاتبهم في الإدارات الحكومية بانتظار إدانت`هم أو تبرئتهم من لجنة تقصي الحقائق! [email protected]