قالوا إن شرارة التغيير في تونس كانت البحث عن لقمة العيش، وإن الاحتجاجات الشعبية استمدت قوتها من وفرة المعوزين والعاطلين عن العمل، وغالبيتهم من حملة الشهادات الجامعية. وقالوا إن الحرية هي الحافز، وما كان للغضب واليأس أن يملآ روح محمد البوعزيزي ويحرق نفسه ويحرك الشارع لولا شيوع حالة من القهر والإذلال. على أي حال، ومهما تكن الدوافع والأسباب، فإن ما تشهده تونس من تحولات يشير إلى غلبة الهم السياسي وتقدم شعارات التغيير الديمقراطي وحقوق الإنسان على ما عداها، وكأن الشعب التونسي استشعر ربما بحسه العفوي أن التغيير في ميدان السياسة هو الخطوة الصحيحة التي توفر فرص نجاح عملية التغيير بأبعادها المختلفة، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. رسالة تونس واضحة، لا مكان لتكرار التجربة الصينية التي تستهوي تطبيقاتها النخب الحاكمة لجهة إهمال دور الديمقراطية وتأثيرها الإيجابي على التطور والتنمية، فللصين خصوصية وفرادة لا يمكن لأحد أن يقاربها وتبدو، في مجتمعاتنا العربية، إمكانية عزل مسار النهوض الاقتصادي عن أي مبادرة لضمان الحقوق السياسية للناس أشبه بالوهم، جربته بلدان أكثر قوة اقتصادياً وأشد منعة سياسياً، وكانت النتيجة التحولات التي شهدها الاتحاد السوفياتي وبلدان أوروبا الشرقية. وعليه، فما كان يسمى ب «المعجزة التونسية» صار اليوم موضع دراسة ونقد، وأسقط الرهان على نجاح تنمية الاقتصاد والاستثمارات في ظل غياب الحريات، وربما لا يخفى على أحد أن ما شهدته تونس من نهضة وتطورات عمرانية على أهميتها شُوِّهت بفعل الفساد وأفرغها الانغلاق السياسي من محتواها لتغدو بعيدة عن حاجات الناس وطموحاتهم. ما سبق يؤكد وجهة النظر التي تقول إن فكرة التنمية لم تعد تقتصر في عصرنا الحديث على البعد الاقتصادي، وإنما تتسع لتتضمن دولة القانون وحقوق الإنسان والحريات، بما يعني ارتباط الحراك الاقتصادي ورفع معدلات النمو بعافية الوجه السياسي في عملية التنمية الذي يضفي على الوجوه الأخرى حيويتها وفاعليتها، ويعني أيضاً أن تحسين المستوى المعيشي للناس لا يستقيم ما دام دورها السياسي غائباً، فدعم الديمقراطية وقيم المشاركة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعدالة في توزيع الثروة، فالطبقات المحرومة سياسياً هي كذلك محرومة اقتصادياً، والنخب الحاكمة لا تستأثر فقط بأشكال ممارسة الحكم، وإنما أيضاً بكيفية التصرف بالثروة العامة، واستدراكاً لا تصح معالجة ظاهرة البطالة وإيجاد فرص عمل لجيش من العاطلين إذا لم يسد مناخ من الحرية والتعددية كفيل بتنشيط حركة التنافس والاستثمار، مثلما لا جدوى من محاربة الفساد محاربة ناجعة دون إرساء أجواء من الشفافية والمحاسبة وإعلام حر ينتصر لمعايير الكفاءة والنزاهة على الروح الوصولية والانتهازية. صحيح أن البحث عن كسرة الخبز هو عند الكثيرين أهم من الاهتمام بقضايا الحريات وحقوق الإنسان، لكن يخطئ من يعتقد أن الناس لا تشغل بالهم السياسة، وأنهم لا يطمحون، حتى وهم في حالة العوز والحرمان، إلى إحياء دورهم في تقرير مصائرهم والمشاركة في بناء القرارات التي تخصهم. وعليه، فحين تُخِلّ الحكومات بمسؤولياتها في توفير الضرورات الأساسية للحياة، وتتراجع قدرتها على التعاطي الإيجابي مع حاجات المجتمع ويفضي انتشار الفساد والتركيز الفاحش للثروة إلى انهيار القوة الشرائية للأغلبية الساحقة من المواطنين وإضعاف الطبقة الوسطى، ليس ثمة من يعرف متى يتحول الإحباط والاحتقان الاجتماعيين إلى ردود أفعال شعبية عفوية، تضع عملية التغيير السياسي على نار حامية، يزيدها حرارة لجوء هذه الحكومات إلى القوة والعنف لضمان السيطرة ومعالجة ما يحصل من احتجاجات. التونسيون قالوا كلمتهم تجاه المعادلة التي طالما رُوِّج لها، بأن إشغال الناس في معاناتهم الاقتصادية يصرفهم عن هموم السياسة وأهلها، وساهموا بلا شك في هز الثقة بأسلوب القمع والترهيب في ديمومة السيطرة، لعل أصحابه يقتنعون أخيراً بأن مثل هذه الطريق لا تفضي سوى إلى تأجيل ردود الأفعال المناهضة، لكن كي تأتي أكثر حدة وعشوائية. «لا نريد للعالم أن يشمت فينا»، هي عبارة تكررت في تعليقات التونسيين، مشفوعةً بالرغبة في استمرار تحركهم سلمياً وبشكل آمن، بعيداً عن العنف أو ما قد يزعزع الاستقرار. وكأن دروس التجربة العراقية حاضرة ويتمثلها التونسيون جيداً، وكأن هذا الشعب يعيش مخاض تحرره وفي رأسه هاجس الفوضى والخوف من حصول انفلات أمني يؤدي بالأوضاع إلى ما هو أسوأ. وخير دليل على هذا، مبادرة التونسيين السريعة لتشكيل لجان أهلية تضبط حالة الفلتان الأمني وتضع حداً للممارسات الغوغائية في غير مدينة، والتي شكلت رداً حازماً على بعض المهولين الذين ما فتئوا يهزأون من الشعوب التي لا تستحق الحرية، ويراهنون على الفوضى والصراعات المتخلفة، ويشيرون بسخرية إلى بعض المظاهر السلبية التي حصلت من سلب ونهب وحرق للممتلكات العامة. وما يثلج الصدور أكثر ويطمئن القلوب، هو غياب الروح الاستئصالية والثأرية، وبالمقابل حضور إيمان عام بدور الدولة ومؤسساتها في عملية التغيير، وأيضاً بتدرج وسلمية هذه العملية، وكأننا أمام سيمفونية مشغولة بدقة تعتبر حضور الدولة الديمقراطية هو شرط الحرية وغايتها، وتتقصد تفكيك الأساليب الأمنية والتسلطية التي سادت في إداراتها ومؤسساتها بصبر وإتقان. لكن التغاضي عن زمن الأزمة السياسية هو تعبير عن عجز في عملية الإقلاع الديمقراطي، حتى وأن كانت الفوضى خيار بعض القوى الهامشية التي لا مستقبل لها. ووراء طول استمرار هذه الأزمة تقف مخاطر كثيرة، أهمها احتمال تفسخ إرادة التغيير وتشويهها، وتمكين قوى مختلفة تترصد هذه التجربة لتخريبها والارتداد عنها. وبينما يبدأ الشعب التونسي معركة استقلاله الثاني، لا يزال أوضح عنوان لتخلفنا ولحالة الضعف والارتباك التي نعانيها، هو عندما ذهبت مجتمعاتنا العربية منذ فجر الاستقلال حتى اليوم إلى اعتبار الديموقراطية شعاراً غريباً عن حقوقنا وثقافتنا، واختارت معاداتها ومواجهتها بمناخات لا تؤمن بالتعدد السياسي والحوار والتشارك، بل تسوغ، على النقيض من ذلك، أساليب القوة والاضطهاد والعنف. ولا نتعجل الاستنتاج أو نبالغ إذا قلنا إن نجاح التجربة التونسية سوف يترك أثراً كبيراً على خيارات المجتمعات العربية، وبالحد الأدنى يكفي هذه التجربة فخراً أنها ساعدت في تنامي يقظة الشعوب ودرجة تحسسها لمصالحها، وفي منح فكرة الديموقراطية حضوراً جديداً بعد انحسار، لتشغل الحيز الذي يليق بها في الفضاء الثقافي والسياسي، بما في ذلك عودة الروح إلى مصطلحات المواطَنة والحرية والمشاركة، بعد أن بذل أعداؤها جهوداً حثيثة لإنكارها ووأدها.