لا تعتمد بريطانيا، مثلها مثل كثير من دول العالم، سياسة محددة في أسلوب تربية الأطفال، بل تترك للأهل الحرية الكاملة في تربيتهم كما يشاؤون في المنزل. وتعتمد المدارس الحكومية منهجاً موحداً في مادة التربية يركّز على تعليم الأطفال طريقة التصرف بصفتهم جزءاً من مجتمع (مثل الوقوف في صف، وأخذ دورهم، ومساعدة الآخرين)، والمدارس على اختلاف انتماءاتها الدينية أو العقائدية، تركّز على تعليم الأطفال مادة التربية انطلاقاً من تعاليم الأديان السماوية. وبما أن تربية الأطفال أمر متروك للأهل والمدارس في بريطانيا، فإن عوامل عدة مختلفة لا بد أنها تؤثر فيها وعلى رأسها المستوى التعليمي للأهل أنفسهم، والوقت الذي يقضونه في تربية أطفالهم وتعليمهم. كما يلعب دوراً أساسياً في هذا المجال المستوى الاجتماعي للعائلة (ثرية، فقيرة أو متوسطة الحال)، وعلى نوع المدرسة التي يتم إرسال الأطفال إليها، إذ يظهر تفاوت كبير في مستوى التعليم، وبالتالي التربية، بين المناطق الفقيرة والميسورة الحال. وربما تدخل أيضاً في هذا المجال الخلفية الإثنية أو الدينية للأهل وكيف ينظرون إلى غيرهم، فالأطفال يتأثرون بلا شك ب «عنصرية» أهلهم أو تعصبهم أو بتقبلهم الآخر وتسامحهم إزاءه. كما تتأثر تربية الأطفال، بمتانة الحياة العائلية بين الرجل وزوجته، وإذا ما كانا يتشاجران أمام أطفالهما أم إنهما يعيشان حياة هانئة لا تعرف الكثير من الصياح و «تكسير الصحون». وتعتبر ظاهرة «الأمهات العازبات» اللواتي يربين أطفالهن من دون وجود زوج في المنزل، وفي بعض الحالات قد تكون الأم تعيش لوحدها بلا زوج نتيجة طلاق أو انفصال، عنصراً منتشراً في بريطانيا والغرب عموماً ويمكن أن يؤثر في تربية الأطفال. وعلى رغم هذا التنوع الواضح في العوامل التي تؤثر في تربية الأطفال، تبقى هناك مدرستان أساسيتان في بريطانيا تتنافسان على كسب ما تعتبره كل واحدة منهما أنه «الأسلوب الأنجع» في التربية. المدرسة الأولى تعتمد أسلوب «الحب الذي لا ينتهي» (أندلس لوف) وتقوم على سياسة التساهل الكبير مع الأطفال، في حين تعتمد المدرسة الثانية أسلوب «لا سماح بتاتاً» zero tolerance الذي يقوم على اعتماد الصرامة البالغة مع الأطفال. ولا تتبنّى الدولة تأييد أي أسلوب من هذا الأسلوبين في تربية الأطفال. مؤسسة «رفقة أولاد» kids company، التي تُعنى بتربية الأطفال ويقع مقرها الأساسي في جنوبلندن، تُعتبر ترجمة عملية للمدرسة الأولى المتسامحة في طريقة تعليم الأولاد. وتعتمد هذه المؤسسة/ المدرسة التي أسستها كاميلا باتمانغليدجه، الخبيرة النفسية الإيرانية المولد، سياسة «التساهل الكامل» مع تلامذتها. فالأطفال، وهم في غالبيتهم من بيئات فقيرة ولديهم مشاكل عائلية، يُسمح لهم – كما يبدو - بالتصرف كما يشاؤون، حتى ولو تعاملوا بطريقة فظّة مع زوّار مدرستهم وصاحوا في وجوههم. في المقابل، تقف «أكاديمية إيست سايد للقادة الصغار»، في شرق لندن، على النقيض من مدرسة «رفقة الأطفال». الصراخ شيء مشترك بين المؤسستين. ولكن في حين يصدر الصراخ عن أطفال «كيدز كومباني» في وجه من يريدون الصراخ في وجهه (من دون رادع من المدرسة)، فإن الصراخ في «أكاديمية إيست سايد» يصدر عن المعلّمين الذين يتولون تربية الأطفال. إذ يقف الأستاذ أمام قرابة 40 طفلاً ويطلب منهم الوقوف بترتيب في صف واحد خلف بعضهم بعضاً، ثم يصرخ فيهم «ارفعوا رؤوسكم عالياً. ارفعوا صدوركم إلى الأمام. قفوا أقوياء وفخورين بأنفسكم. كفّوا عن عرك أعينكم، فلا بد أن تكونوا قد صحوتم بحلول هذا الوقت». ثم ينظر الأستاذ إليهم ويقول «إنكم تثيرون الشفقة!». وكما هو واضح، تفضّل «أكاديمية إيست سايد» اعتماد مبدأ «عدم التساهل» مع الأطفال بحسب توجيهات مؤسسها راي لويس، وهو حاكم سابق لأحد السجون البريطانية، في سياسة تمثّل النقيض لسياسة «كيدز كومباني» التي تتبنى رأي مؤسستها كاميلا والقائم على أن التربية الأفضل هي التي «تسامح بلا نهاية». وكان أسلوب التربية لكل من المدرستين محور تجاذب بين الأحزاب السياسية في بريطانيا، على رغم أن أياً منها لا يؤيد مدرسة على الأخرى. لكن رئيس الوزراء المحافظ ديفيد كاميرون بدا قبل فترة وكأنه قد تأثر بنجاعة أسلوب مدرسة «كيدز كومباني»، خصوصاً عندما دعا إلى التساهل مع ظاهرة الصبية الذين يضعون أغطية على رؤوسهم ويجوبون الشوارع مثيرين الرعب في أوساط المسنين الذين يخشون تعرضهم للسرقة او الاعتداء. لكن كاميرون غيّر رأيه لاحقاً، وأظهر مزيداً من التشدد من خلال توصيته بسجن أي صبي مراهق تعثر الشرطة معه على سكين (بعدما كثرت حالات الطعن بالسكاكين بين الأولاد في المدارس). وفي ظل هذا التضارب في الآراء حول الأسلوب الأنجع لتربية الأطفال في بريطانيا، جاءت دراسة لتُظهر أن الحل قد يكون في تربيتهم في أي مكان آخر في العالم باستثناء بريطانيا. فقد نشرت صحيفة «ديلي ميل» البريطانية الواسعة الانتشار، في 12 آذار (مارس) 2010، نتائج دراسة أظهرت أن بريطانيا هي أسوأ بلد في تربية الأطفال بين بلدان العالم المتقدم (جاءت أستراليا في المرتبة الأولى). وكشفت الدراسة أن 78 في المئة من الذين انتقلوا من بريطانيا للعيش خارجها (عيّنة من ستة بلدان مختلفة) وجدوا أن مستوى حياة الأطفال أفضل في أستراليا منه في بريطانيا، وان الأطفال الذين انتقلوا إلى هناك يقضون أوقاتاً طويلة خارج المنزل ويأكلون طعاماً صحياً. وفي مقابل ذلك، أظهرت الدراسة أن الأطفال الأجانب الذين انتقلوا للعيش في بريطانيا صاروا كسالى وقليلي الحركة ويقضون كثيراً من الوقت وهم يجلسون على أريكة يشاهدون التلفزيون. وبصرف النظر عن صحة هذه الدراسة، ومدى إظهارها رداءةَ مستوى تربية الأطفال في بريطانيا، يبقى الأكيد أن هناك أساليب عدة يمكن أن يتبعها الأهل لمساعدتهم في تربية أولادهم، من دون أن يضطروا إلى أخذ موقف متساهل جداً ك «كيدز كومباني» أو صارم جداً ك «أكاديمية إيست سايد». ويورد الدكتور المختص في علم تربية الأطفال، مارك براندنبورغ، نصائح عدة تساعد في نظره الأهل في تربية أطفالهم تربية جيدة. ومن بين هذه النصائح ضرورة أن يكون الأهل واعين إلى أن أطفالهم يلاحظون على رغم صغر سنّهم كيف يتعامل أهلهم مع الإحباطات التي يعانون منها في حياتهم ويلاحظون مدى صلابتهم أو ضعفهم، كما يرون ما إذا كان أهلهم يدرون بمشاعرهم، وبمشاعر الآخرين. ويشير براندنبورغ إلى أن هناك الكثير من الأشياء المتاحة اليوم أمام الأطفال الذين سيطلبون الحصول على الكثير منها، لكن على الأهل أن يقولوا لهم «لا، لا يمكنكم الحصول على ما تطلبون». ويوضح أن هذا الرفض لتلبية طلبات الأطفال يساعدهم في التعامل مع حالات خيبة الأمل في المستقبل وطريقة السيطرة على ردود فعلهم. كما ينصح الأهل بتجنب إطلاق صفات سيئة على الأطفال عندما يثيرون غضبهم، كأن يقولوا للطفل «تبدو غاضباً» أو «أنك حزين»، بدل أن يقولوا له إن عليه «الصمت» والتوقف فوراً عن البكاء والعويل. ويلفت الخبير النفسي إلى أن عندما يصبح الطفل صبياً صغيراً (أو صبية) يمكن البدء في تعليمه تحمّل المسؤولية، وبدل الطلب منه أن يأتي بقبعته وقفازيه لحماية نفسه من المطر والبرد خلال رحلته إلى المدرسة، يمكن القول له: «هل ينقصك شيء حتى تصبح جاهزاً للذهاب إلى المدرسة؟». ذلك أن إبلاغ الأطفال دائماً بما عليهم القيام به لا يساعدهم في بناء شخصياتهم وثقتهم بأنفسهم أو بتحمل المسؤولية. كما ينصح الأهل بالتعامل بهدوء مع المشاكل التي يتسبب بها الأبناء، وبإشراك الأطفال في أخذ القرارات في المنزل لأن ذلك سيجعلهم أكثر سعادة وسيجعلهم يشعرون بأنهم جزء مهم من العائلة وبأن لهم قيمة فيها. ويلفت إلى أن الأطفال يحتاجون إلى أن يلعبوا لا أن يجلسوا يشاهدون التلفزيون، لأن اللعب يساعدهم في تطوير قدراتهم الإبداعية وقدرتهم على حل مشاكلهم. كما ينصح أخيراً بتحديد قواعد معينة يلتزم اتباعها مختلف أفراد العائلة: لا صراخ، لا كلمات بذيئة، احترام متبادل.