ظل أكثر العلماء طيلة القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ينظرون إلى شخصية الفرد بوصفها سبباً لوجود الدين. ولأجل ذلك كان الكتابُ يضعونَ بعض الفرضيات الشديدة العمومية، والتي ترى أنّ الدين أمرٌ يتعلقُ بالإيمان وبالروحانيات (ومن ثم يقتصر عليها فقط!). ومن هذا المنطلق حاول الكتابُ شرحَ مفهوم الدين باعتباره جزءاً من العملية الفكرية للإنسان يتسمُ بالعقلانية تارة، وبالموروث العاطفيّ والنفسيّ لطفولة البشرية تارة أخرى. ومن المعلوم أن فرويد كان يرى في الدين نتاجاً مُضلِلاً وغير صحي للمشكلات الكامنة لدى الأطفال، متجاهلاً بذلك فرضياته الثقافية المحددة التي وضعها بنفسه حينما قدّم هذه النظرية. بمعنى أن أفكاره التي تدور حول كيف يصبحُ الإنسان متديناً تعتمد على أفكار سلوكية مميزة لثقافته. ومن ثم، فإن الفرضية التي وضعها ومفادها ان الدين يأتي (يتم اختراعه) ليضع نموذجاً سماويّاً للأب، يُطلق عليه لقب «الإله»، من أجل إقامة التوازن «النفسي» مع الأب نفسه، لا تتفقُ في شكل بسيط مع التعاليم غير المسيحية التي لا تصوّر الإله باعتباره نموذجاً للأب، أو ربما لا تصورهُ على الإطلاق. وبالتالي، إذا كان للشخصية الفردية من مكان في فهم الدين، يتعين فعلينا أن نعي أن هذه الشخصية تعتمد على الثقافة بأشكال متعددة، وهو ما يجرنا بدوره إلى طرح مجموعة من التساؤلات المهمة، في مقدمها: ما الذي نعنيه بكلمة ثقافة؟ وما مقصودنا بكلمة دين؟ وأين تنتهي الثقافة ويبدأ الدين؟ وما هو الفارق بينهما؟ وما موقع كلٍ منهما في حياتنا المعاصرة؟ أين يمكن أن نبدأ بالضبط في البحث عن الدين، وعن كيفية وأسباب «تدين» البشر بأساليب متنوعة... لاشك في أن ثمة أدياناً بعينها تتشكل من ثقافات محددة (كأديان الهند الكبرى على سبيل المثال)، وبالعكس فإن أكثر الثقافات تتشكلُ على نطاق واسع من الأديان التي تنتمي إليها، وفي الحالين معاً لم يعد الدين، في حياتنا المعاصرة، شيئاً حر الحركة أو بعيداً من السياق الثقافي الذي ينشأ ويتغلغل في داخله. ومع ذلك يبقى السؤال قائماً حول: ما الذي نعنيه تحديداً بكلمة «دين»؟ هنا يمكننا أن نفكر في مفهومنا عن الدين من اتجاهات عدة: هل نتحدث عن الدين بوصفه اسماً، أم باعتباره صفة، أم حالاً، أم فعلاً؟ فالدين باعتباره اسماً يعبر: إما عن مجموعة من التعاليم الدينية، أو عن شيء عالمي نرى أثره في كلّ البشر. أمّا الدين باعتباره صفة، أو حالاً، فإنه يعدُ وسيلة لوصف أشياء أو سلوكيات بعينها (كقولنا: كتب دينية، مؤسسات دينية... إلخ). وإلى جانب ما سبق، يمكننا أيضاً أن نتوسع في الحديث ليشمل «التدّين»، أي كفعل يدل على الدين نفسه. فمما لا شك فيه أنّ الأديان أصبحت ترسم بالفعل شكل عالَمنا المعاصر: ابتداء من اندلاع الثورة الإسلامية وحروب الشرق الأوسط، ومروراً بحوادث الانتحار الجماعي، وصراعات يوغوسلافيا وإرلندا الشمالية، وليس انتهاءً بالنزاع حول القضية الفلسطينية. وهذا الأمر يقتضي منا أن ننزع إلى تحليل أكثر عُمقاً لفهم تعقيدات التعاليم الدينية، وكيف تشكل تلك التعاليم كلاً من الثقافات والأحداث في آن معاً. ليس الدين إذاً شيئاً مجرداً يمكن تنحيتهُ جانباً، كما خُيِّلَ للبعض، لكنه جزء لا يتجزأ من النشاط الثقافيّ الإنسانيّ. ومن ثم، فإنه - وفق معناه العام الثقافي - لا يُنظر إليه باعتباره شعاراً يتم من خلاله تقسيم وتصنيف مجموعة مختلفة من التعاليم، وإنما بوصفه تجسيداً لجانب عامٍّ من حياة الأفراد، حتى وإن لم يهتموا لأمره كلية. والدليل على ذلك كله الجذور التاريخية لنشأة الأيديولوجيات الدنيوية - وعلى رأسها الماركسية - التي نشأت أساساً لأجل شغل مجموعة الأدوار والوظائف التي كان يملأها الدين من قبل. فمن الثابت تاريخياً أن القومية قدمت مجموعة من «الآلهة» الجدد لكثيرين في الغرب وفي العالم أجمع، بخاصة أولئك الذين أعلنوا رسمياً، أو في إطار ممارساتهم اليومية على الأقل، عدم انتمائهم الى أي دين وفق المفاهيم المتعارف عليها علمياً. وعلى الجانب الآخر، ثمة آخرون تطلعوا إلى القومية الشاملة وثقافة الدولة، أو ما أُطلِقَ عليه تسميةُ «الدّين المتمدن»، ممن سعوا إلى خلق حسّ دينيّ جديد يربط بين هؤلاء الذين لهم خلفيات دينية متعددة من جهة، وأولئك الذين ليس لديهم أي خلفيات دينية على الإطلاق من جهة أخرى. وفي كل الأحوال، يذهب عدد لا بأس به من الباحثين – وعلى رأسهم مالوري ناي مؤلف كتاب «الدين الأسس» - إلى أنّ المظاهر الثقافية الجديدة، وفي مقدمها لعبة كرة القدم وصناعة السينما، نشأت في الأصل من أجل ملء تلك الفجوة التي كان يشغلها الدين من قبل. على أن وجهة النظر تلك (أعني النظر إلى الأديان باعتبارها معطى ثقافياً) من شأنها أن توسع الى أقصى درجة ممكنة الفكرة السائدة عن ماهية الدين كما هو متعارف عليه. وبهذا الفهم الواسع لمفهوم الدين يبدو من المنطقي تماماً افتراض أن معظم – إن لم يكن كل - الناس لديهم في حياتهم إذا اقتربنا منها، وتمعنا فيها بمزيد من الحساسية، شيء ما يمكن أن نطلق عليه لفظ «دين»، حتى وإن لم يطلقوا هم أنفسهم هذا اللفظ عليه. وآية ذلك أن الدين يُستخدم بطرق شتى في الحياة اليومية العادية متضمناً نطاقاً واسعاً للدلالات المتنوعة المندرجةِ تحته في الاستخدامات اليومية. ففي كثير من السياقات الثقافية ثمة مساحة لنشاط ثقافيّ ما يُطلق عليه مصطلح «الدين». وإذا قبلنا بتلك المقاربة كمسلّمة أولية يصبح في مقدورنا فعلياً إطلاق لفظة الدين على لعبة مثل كرة القدم، ورؤية كيفية ممارسة النشاطات التي تندرج تحت هذا المصطلح المتعدد الدلالات كجزء لا يتجزأ من الحياة الثقافية العامة، ومن دون انفصال عنها. وباتباع هذا المنهج، يصبح من غير الضروري القول إن الدين ذو روح أو جوهر، ولا القول إنه يؤدي أدواراً بعينها في الحياة الاجتماعية أو الثقافية النفسية، إذ لا يوجد نشاط ما ولا أسلوب تفكير أو حديث أو نوع محدد من الأماكن والنصوص يوصف فعلياً بكلمة «ديني»؛ فالدين يدخل في أسلوب حديثنا عن العالم من حولنا وفي طريقة إدراكنا للاختلافات ونقاط التشابه مع الأنواع الأخرى من النشاطات المتعددة. وعلى هذا النحو، تُعينُنا دراسة الدين والثقافة – أو الدين بمعناه الثقافي - على إدراك عالمنا المعاصر، إذ انها لا تخبرنا عن تنوع الآراء الدائرة حول أمر الدين فحسب (كيف ولماذا يصف الناس ما يفعلونه بلفظ دين؟)، بل وتعلمنا أيضاً كيفية تأثير الدين - باعتباره جزءاً من حياة البشر وثقافتهم - في سياقات عدة بحيث لا يعتبر شيئاً باطنياً منفصلاً عن حياة الناس، بل هو ما يفعله البشر في مختلف ممارساتهم! على أن الدين بمعناه الشامل، أي كمشترك عام للبشر كافة، يعني بحسب البعض تجسيداً لحاجة الإنسان إلى الارتباط بحقيقة بديلة، أو بمعنى حقيقي للوجود، أو بأساس للكون (الحقيقة النهائية)، يعد جزءاً من الطبيعة البشرية ذاتها، مع الإقرار بأن كل محاولات الوصول إلى تعريف جامع مانع للدين بالمعنى العام عادة ما تبوء بالفشل. فعلى سبيل المثال، أورد جوناثان سميث قائمة مكوّنة من خمسين محاولة مختلفة لتعريف مفهوم الدين، ليخلص في النهاية إلى أن ذلك لا يعني عدم إمكان الوصول إلى تعريف للدين، وإنما «يمكن تعريفه بوسائل عدة تصل إلى خمسين وسيلة تتراوح بين النجاح والإخفاق». وذلك بالضبط ما اتبعه مالوري ناي في كتابه السابق الذكر عند حديثه عن الدين، أي النظر إليه ليس باعتباره شيئاً ذا معنى مميز في ذاته فحسب، بل ويُمارَس بطرق شتى في الحياة اليومية أيضاً. ومن ثم، قصد باستخدام المصطلح في كتابه الإشارة إلى ذلك النطاق الواسع للدلالات المتنوعة المندرجة تحت مفهوم الدين في استخدامات الحياة اليومية. ونتيجة لذلك أيضاً، اقترح ناي على الباحثين أنه بدلاً من الاستغراق في إضافة تعريف جديد إلى قائمة التعريفات، عليهم ألا يغوصوا أكثر فأكثر في مستنقع البحث عن تعريفات، وأن يعملوا بدلاً من ذلك بناءً على الفرضية القائلة إنّ في كثير من السياقات الثقافية ثمة مساحة ما لنشاط ثقافي ما يُطلق عليه مصطلح «الدين». وأنه في حال قبولنا بذلك كمسلّمة يُصبح الغرضُ من دراسة الدين كمعطى ثقافي ممثلاً في «رؤية كيفية ممارسة النشاطات التي تندرج تحت هذا المصطلح المتعدد الدلالات كجزء من الحياة الثقافية ككل». وفي كل الأحوال، علينا أن نأخذ في الاعتبار أيضاً أن الاختلافاتُ النابعة من السلطة الزمنية لا تمضي من دون تحديات ومقاومة، بل تولد تواترات شتى بين الجماعات المختلفة، فأولئك الذين يملكون السلطة عادة ما يسعون إلى إيجاد طرق شتى تجعلُ الذين يتحكمون فيهم سهلي الانقياد، بينما يقاوم الذين لا يملكونها محاولات السيطرة عليهم. ومن هنا، غالباً ما تكون الثقافة ساحة تنمو فيها علاقاتُ فرض السلطة داخل المجتمع. وليس أدل على ذلك من أن فكرة تكافؤ الفرص تعتبر فكرة محورية داخل المجتمع الأميركي الذي يعد متناقضاً في ذاته في شكل نسبي بسبب علاقات عدم المساواة الحقيقية بين طوائف المجتمع. ومع ذلك أصبحت القصص التي تروي أنّ أشخاصاً من طبقات دنيا من الناحية الاقتصادية يحققون النجاح، فكرة أساسية في الأفلام الهوليوودية على مدار أعوام. وعلى رغم أن تلك القصص تعتبر مسلية وملهمة، إلا أنها تخلق فكرة «وهمية» تقوم على أن الاختلافات بين هؤلاء الذين يملكون السلطة وأولئك الذين يقعون خارجها ليست إلا محضَ مسألةِ اختيار شخصيّ وقدرةٍ ذاتيةٍ وليست ناتجة بطبيعة الحال من بُنى المجتمع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية! لكن في المقابل من ذلك، هنالك الكثير من الأعمال الشعبية التي قاومت الاختلافات المبنية على السلطة داخل المجتمع (أبرز مثال على ذلك موسيقى الراب للسود في أشكالها المتنوعة). ومع ذلك، عادة ما يحدُث أن تنصهرَ تلك الثقافة الشعبية «المُقاومة» - بعد أن كانت في إحدى مراحلها تحمل تحدياً ورغبة في التدمير تجاه التعاليم السائدة - لتتحول هي نفسها إلى أشكال سائدة تخدُم مصالحَ مَن ابتدعوها. وبهذه الطريقة، قد تمرُ الثقافة الشعبية، بما في ذلك استلهامها لصور وأنماط من المقاومة المُرتكزة على موروثاتٍ دينيةٍ (أبطال شعبيون، رموز مقاومة، تحريريون، رجال دين مجاهدون...)، بمراحلَ تُنقحُها، إلى أن تصبحَ أقلَ راديكالية وتمرداً على الأنظمة الاجتماعية. ختاماً، لقد احتل هذا المنظور (النظر إلى الدين باعتباره معطى ثقافياً) اهتماماً كبيراً بخاصة لدى علماء الانثروبولوجيا وفي مقدمهم الأميركي كليفورد غيرتز في عمله الأشهر «الدين باعتباره نظاماً ثقافياً»، والذي أكد فيه أن دراسة النشاط الإنساني بأنماطه كافة، بما في ذلك الدين، تحتاج إلى ربط بينها وبين الطرق التي توحد البشر بعضهم ببعض في «شبكات الدلالات» الرمزية التي ينسجها الإنسان بنفسه. وبالتالي يتعين علينا فهم الدين بوصفه «نظاماً من الرموز التي تعمل من أجل ترسيخ حالات ودوافع قوية وباقية لدى البشر من طريق تكوين مفاهيم حول نظام الوجود العام، وإحاطة هذه المفاهيم بهالة من الحقيقة، بحيث تبدو تلك الحالات والدوافع وكأنها واقعية على نحو فريد». وفي سياق مشابه، ربما كانت أكثر المحاولات تأثيراً لربط الدين بالنطاق الاجتماعي من المنظور ذاته تلك التي قام بها السوسيولوجي الفرنسي إميل دوركهايم، بخاصة في كتابه «الأشكال الأولية للحياة الدينية»، والذي أكد فيه أن للدين وظيفتين أساسيتين: أولاهما تجميع الناس وخلق التضامن الاجتماعيّ، ثانيتهما منح المتدينين وسيلة لإدراك العالَم ورؤيته بحيث تُفضي الهُوّيات الدينية إلى خلق هوّيات اجتماعية لدى أفراد الجماعة المؤمنة. ومن ثم، ينتمي الفرد إلى جماعة ما لأنه يحملُ شعاراً دينياً يتفق مع الشعارات الدينية التي يحملها أفراد الجماعة نفسها. ونتيجة لذلك، فإن هاتين الوظيفتين معاً تجعلان أي مجتمع قابلاً للعيش فيه بما أن الدين يعتبر شكلاً من أشكال الوعي الجماعي الذي يُبقي المجتمع في حالة من الوحدة الكاملة. * كاتب مصري