في ظل انقضاء زمن النظام العالمي الذي برز بعد الحرب العالمية الثانية وشهد لاحقاً انفراد أميركا بالسيطرة على العالم مع انهيار الثنائية القطبية (أميركا والاتحاد السوفياتي) وفي ظل الانتفاضات العربية وما أعقبها من فوضى ودمار وإرهاب وتفكُّك واتساع مساحات البطالة والفقر والإفقار لدى معظم شعوب المنطقة، واستمرار السياسات الحاكمة التي قامت الثورات من أجل اقتلاعها، يبرز التساؤل حول تأثير النظام الرأسمالي العولمي الراهن في المجريات السائدة في العالم العربي ومستقبلها، إذ يبدو واضحاً أن النسخة الحالية من الرأسمالية العولمية تعمل من خلال حكومة عالمية واحدة غير ديموقراطية ومحصورة في الخندق الاقتصادي المالي المكتوب بلغات عدة، وتسعى بحزم لتسخير النشطات الإنسانية من تعليم وثقافة وصحة لتعظيم ثروة مجموعة صغيرة من الدول والشركات المتعدية الجنسية على حساب بقية شعوب الأرض. هكذا أكدت سوزان جورج، رئيسة مرصد العولمة في باريس والمدير المشارك فى معهد أمستردام. والثابت أن نظام العولمة الراهن يعمل لمصلحة 10 في المئة من سكان العالم، ولا تقتصر مساوئه على شعوب الجنوب بل تشمل كذلك الفئات الكادحة من الأوروبيين والأميركيين. فهل يسعى أباطرة العولمة إلى تصحيح مساراتها وتجديد ذاتها على المستوى الاقتصادي فحسب؟ أم أن التجديد يتطلب إجراءات تتناقض جذرياً مع مصالح هؤلاء الأباطرة إذ تستلزم جعل التجارة العالمية عادلة وليست حرة، وإخراج التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية من سيطرة السوق وفرض ضريبة على رأس المال الدولي، وإلغاء ديون العالم الثالث وإعادة هيكلة المؤسسات المالية (البنك والصندوق الدوليين) ومصادرة ثروات حكام الدول المدينة، تجنباً لمزيد من المجاعات والاضطرابات والحروب الأهلية واتساع شبكات الفساد وتصاعد أعمال الإرهاب. ولا ينبغي هنا إغفال أن شروط المؤسسات العولمية التي تتناقض مع حقوق الشعوب العربية ومصالحهم ساهمت في خلق الشروط الموضوعية لقيام الانتفاضات الثورية في إطار ما يسمى الربيع العربي. ويقودنا ذلك إلى الاقتراب من أزمة النخب السياسية والثقافية العربية، والمتاهات الدامية التي أعقبت الثورات العربية وساعدت في عودة الأنظمة القديمة وفلولها إلى الساحة السياسية والتحكم في دفة الأمور، واستمرار السياسات الجائرة التي قامت الثورات من أجل إنهائها والقضاء عليها. إذاً مبررات الثورات لا تزال قائمة في ظل أنظمة لا تؤمن بالديموقراطية ولا العدالة المجتمعية وتستأثر بمراكز النفوذ العسكري والسياسي والاقتصادي وتركز على حماية الأمن القومي وفقاً للمفهوم السلطوي، ولا تسمح للشعوب إلا بهامش محدود يتراوح بين الموت جوعاً أو الانتحار يأساً. ويلاحظ أن كل ثورة مصرية كانت تسبقها انتفاضات يتم قمعها أو هزيمتها. فقد سبق ثورة تموز (يوليو) انتفاضة الطلاب والعمال 1946، كذلك سبقت «ثورة يناير» 2011 انتفاضة الخبز في كانون الثاني (يناير) 1977. كما لوحظ أن كل ثورة قامت في مصر كان يفصلها زمنياً حوالى ثلث قرن عن سابقتها. فقد قامت ثورة عرابي 1881 ثم مرّ حوالى 38 عاماً لتقوم ثورة 1919 التي يفصلها عن ثورة تموز التالية لها ثلاثة وثلاثون عاماً. أما ثورة كانون الثاني 2011 فقد قامت بعد 49 عاماً مِن ثورة تموز والثورة الوحيدة التي حققت معظم أهدافها كانت ثورة تموز بقيادة الجيش المصري لأسباب ذاتية وموضوعية. فالظروف الدولية كانت تشهد بداية غروب المرحلة الاستعمارية الأوروبية وبزوغ وتصاعد حركات التحرر الوطني في دول العالم الثالث. أما الأسباب الذاتية فتتعلق بوجود قيادة تمثلت في تنظيم «الضباط الأحرار» والأهداف الستة التي التزمها. وعندما نتحدث عن ثورة كانون الثاني 2011 يقفز أمامنا السؤال: لماذا لم تكتمل هذه الثورة وتنجح في تحقيق معظم أهدافها على رغم اكتمال مبررات قيامها؟ ويثار هذا السؤال أيضاً بالنسبة إلى الثورات العربية في تونس وليبيا وسورية واليمن. وإذا كان الواقع العربي يشير إلى أزمة الحكام الذين استنفدوا مبررات وجودهم وتجاوزتهم الظروف المجتمعية الدولية والمحلية، إلا أن ذلك لا يعني إغفال أزمة النخب العربية التي من المفترض أنها تملك رؤى وبرامج للتغيير، ولكنها ظلت تواصل أدوارها التقليدية التي حددتها لها النظم الحاكمة الاستبدادية في إطار الهامش الضيق الذي لا يهدد مصالح هذه النظم ولا يتناقض مع تعليمات حلفائها من أباطرة العولمة والمؤسسات المالية الدولية. وعندما ضاق هذا الهامش وأهدرت الحقوق الإنسانية للجماهير: الحق في حياة كريمة والحق في حرية الرأي والتعبير والحق في المشاركة السياسية وصنع القرارات المصيرية للوطن؛ عندئذ بدأت منظومة السخط تتراكم لدى الجموع الشعبية، وكان لا بد أن تنفجر في لحظة فارقة استهلتها تونس وأعقبتها مصر ثم سرت رياح الثورة كالنار في الهشيم في غير بلد عربي. ويلاحظ في التجربة المصرية أن حقبة حسني مبارك شهدت ظهور أجيال جديدة مسكونة بالسخط ومزودة بأدوات العصر من المستحدثات التكنولوجية في الاتصال. أبناء هذه الأجيال لم يعانوا مثل الأجيال السابقة من الهزائم المتتالية بدءاً من نكبة 1948 وضياع فلسطين ثم هزيمة 1967 وضياع الحلم القومي العربي، ولكنهم عانوا من القهر السياسي والبطالة والإفقار والتبعية لسطوة السوق العولمية، وأتاحت لهم الثورة العلمية والتكنولوجية أفقاً جديداً للخلاص وتمكنوا عبر الإنترنت وغيره من وسائل الاتصال الإلكتروني من السعي لتحقيق أحلامهم في التخلص من بطش وترهل وفساد واستبداد الأنظمة الحاكمة. ولكنهم لم يمتلكوا من الخبرة السياسية إلا القليل؛ لذلك كانوا غير قادرين على تحويل السخط والاحتجاج والانتفاضة لإسقاط الطغاة إلى إستراتيجيات للتغيير المجتمعي الشامل. لقد نجحت الأنظمة المستبدة في احتكار الفضاء السياسي وإقصاء الشباب عن المشاركة في صنع القرارات المصيرية التي تؤثر في راهنهم ومستقبلهم. عاش هؤلاء الشباب يظللهم الخوف والترهيب وطغيان الأجهزة الأمنية وتقديس الحاكم الفرد وسطوة الإعلام الأحادي المضلل وانتشار ثقافة النفاق والانتهازية وفساد الضمائر. وكان المخرج الوحيد المتاح؛ لهم إما الانضمام إلى التيارات السلفية المنغلقة فكرياً، أو التفاعل مع ما أتيح لهم من حرية التعبير عن آرائهم ونشرها عبر أدوات التواصل الاجتماعي. ولكن بما أن التغيير الذي كانوا يحلمون به لم يكن ممكناً تحقيقه إلا بذخيرة من الخبرة السياسية التي حرمتهم نُظم الحكم من اكتسابها وممارستها، نجد أن الجرأة الممزوجة بالإصرار مكَّنتهم من المواجهة الجسورة لأساليب القمع والبطش السلطوية. إلا أن قوى التسلط وفلول المنتفعين سرقت الثورات وجلبت مكانها ما هو أسوأ. حقاً لقد نجحت ثورة كانون الثاني في الإطاحة برأس الحكم، ولكن السياسات الاستبدادية الفاسدة التي أدت إلى قيام الثورة لا تزال مستمرة. لقد توارت شعارات الثورة: عيش– حرية– عدالة اجتماعية؛ وارتفعت شعارات الاستقرار والإصلاح والتصالح مع لصوص الأوطان والتي لا تستهدف تحقيق مصالح الجماهير، بل تستهدف أساساً ديمومة واستمرار السياسات التي أفقرت الأوطان والجماهير سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وأدى تكلّسها إلى انفجار الغضب، وسيؤدي تراكمها إلى موجات جديدة من الانفجار في لحظة غير محسوبة. جرت مياه كثيرة في الأنهار المصرية والعربية، كما سالت دماء طاهرة ارتوت بها الأرض العربية وآلت إلى الأوضاع الراهنة التي تتناقض مع الأهداف النبيلة التي استشهد من أجلها الآلاف من الشباب العربي وشارك فيها عشرات الملايين من المواطنين، وكان الاعتقال والسجن نصيب من بقي من هؤلاء البواسل على قيد الحياة. أخيراً: هل هناك قوى جديدة بازغة لم تستكمل بعد أدواتها ستتمكن من تحويل براكين الغضب والسخط إلى طاقة تغيير؟ وهل يعيش العالم حالياً مرحلة انتقال قبل بروز البدائل وسطوع الفجر؟ * كاتبة مصرية