في العالم العربي برزت ثلاثة تيارات إزاء تأثير العولمة في الهوية الثقافية القومية. يركز الأول على الأصول الثقافية مسقطاً كل ما أحدثته حركة التاريخ من تفاعل وتحولات لكل المجتمعات. ويعتقد أنصاره أن الخصوصية الثقافية لها جوهر ثابت ومستثنى من قوانين الصيرورة التاريخية، ولذلك فهي تصلح لكل زمان وقادرة على الاستمرار مكتفية بذاتها عن ثقافة الآخرين، ولعل العالم العربي هو المكان الأساس الذي يضم أنصار هذا التيار حيث تثار قضية العودة إلى التراث والعودة إلى الأصول الأولى ويقصدون بها العصر الذهبي للإسلام باعتباره الدرع الحقيقية التي تحمي المجتمعات العربية الإسلامية من كل ضروب التبعية والغزو الثقافي. ويشير الوجه الآخر لهذه الدعوة إلى الرفض الكامل للتحديث باعتباره جزءاً لا يتجزأ من عملية التغريب التي يتم بواسطتها انتزاع هوية المجتمع العربي الإسلامي. إذ يدفع المجتمع إلى أن يضع طبقة سطحية من القيم والعادات الغربية فوق تلك الجذور العربية الإسلامية التي تضرب في أعماق التاريخ فتكون النتيجة مزيجاً غير متآلف لا يمكن أن تستند إليه نهضة أو إصلاح. وهنا ينبغي أن ننتبه إلى أن هناك فارقاً بين العودة إلى الأصول التراثية من أجل التحرير كما حدث في الثورة الجزائرية، وبين التوقف عند مرحلة تمجيد التراث وكأن كل الفروق التي تفصل الحاضر عن الماضي البعيد سقطت من حساب التاريخ. فالواقع أن لا شيء في المجال البشري يعود إلى ما كان عليه، بل تتولد على الدوام حقائق جديدة ويتشكل واقع ثقافي وحضاري جديد. ولا شك في أن عالمية الخطاب الذي يستخدمه أنصار هذا التيار، حيث العالمية سمة أصيلة للإسلام، تسبغ على تحركاتها طابعاً عالمياً وتدفعها من ثم إلى الظهور بمظهر البديل الحضاري للغرب. وهذه الخصائص التي لا تحوي بالضرورة كل سمات الحركة العربية الإسلامية تضفي على أنصار هذا التيار أسلوباً متميزاً كان لا بد من أن يشير إليه الكثير من الباحثين العرب والأجانب، وقد دفع البعض منهم مثل هنتنغتون إلى استخلاص نتائج متعسفة ومبتورة. وإذا كانت الحركات التى تتبنى هذا التيار ترفض الرؤية المحلية الضيقة التي تتبناها التيارات الإثنية، غير أنها تلتقي معها في الوقوف خارج النطاق الجيوسياسي للهوية القومية، كما تشترك مع الرؤية الإثنية في تغليبها البعد الثقافي، وهي بذلك تكفي نفسها مشقة التصدي للمشكلات القومية على المستوى المحلي كما تعجز من باب أولى عن التصدي لقضايا العولمة وتحدياتها على المستوى الاقتصادي. فهي ترفض الدولة القومية والاقتصاد العولمي باعتبارهما نتائج لمراحل تاريخية سابقة أو كمعوقات شديدة الوطأة في الوقت الراهن. ويؤدي بها هذا الإنكار إلى موقف له فاعليته في تعبئة ملايين الجماهير العربية المحبطة، ولكن تأثيره الفعلي يظل ضئيلاً سواء على مستوى الديناميات السياسية أو الاقتصادية، التي تحكم حركة المجتمعات إزاء العولمة. ولا شك في أن نشاطات هذه الحركات أدت داخل المجتمعات العربية إلى ايجاد مسارات جانبية لمقاومة الآثار السلبية للعولمة حيث ركزت على جبهة الهوية الثقافية العربية على حساب القضايا الاجتماعية والاقتصادية، خصوصاً أنها لم تقدم البدائل الصحيحة على المستويين السياسي والاقتصادي. كما قدمت للحكومات العربية المبررات الضرورية لتعزيز أجهزتها القمعية، وفي الوقت ذاته قدمت لمخططي سياسة العولمة ولخبرائهم فرصة سانحة للتغطية على ما يمارسونه ضد ملايين المهمشين والذين يهددهم الموت والجوع كضحايا لسياسات إعادة الهيكلة، إذ جعلتهم يعتبرون الإرهاب الإسلامي الخطر الحقيقي الذي يهدد العالم مغفلين عن إفقار الملايين. أما التيار الثاني فعلى النقيض من الأول، إذ يؤمن بأن الثقافة المركزية، أي الغربية التى تتزعمها الولاياتالمتحدة، جديرة بأن يكون لها الصوت الأعلى على رغم ما تحويه من تسطيح للوعي وتشجيع للمبادرات الفردية القائمة على الاستغلال وبث للفوضى وترسيخ للبيروقراطية وترويج للقيم الاستهلاكية. ويتبنى هذا التيار بعض النخب العربية التي تدين بولائها الثقافي ومصالحها الضيقة للثقافة الغربية التي تمثل جوهر ثقافة السوق العولمية. ويركز أنصار التيار الثالث على أن العولمة حملت الكثير من المخاطر الثقافية التي تهدد المنظومة العربية التراثية المعاصرة عبر البرامج والمنوعات والمسلسلات الوافدة والإعلانات التي تبثها الفضائيات العربية والأجنبية والانترنت. وتتمثل أهم اشكالية تثيرها قضية الأقمار الاصطناعية وشبكات المعلومات الدولية في كيفية التوفيق بين الحقوق الاتصالية للأفراد والجماعات والحفاظ على الهوية الثقافية القومية، خصوصاً في ظل الانتهاك المتواصل من جانب المتحكمين بالعولمة وحلفائهم المحليين للمواثيق الدولية التي تنص على احترام الطابع المميز للثقافات مثل إعلان اليونسكو 1978 وقرار الجمعية العامة عام 1982 ووثيقة الحقوق الثقافية التي طرحها اليونسكو عام 1998 والتي تنص على أن التنوع الثقافي واللغوي والفكري والفني هو ضروري ولازم لضمان الصحة الروحية للمجتمعات والأفراد. ولا يمكن إغفال وجود بعض النخب الثقافية العربية ذات التوجه القومي والمعروفة بتاريخها السياسي دفاعاً عن القومية العربية. إلا أنها لا تزال تتناول الفكر القومي راهناً انطلاقاً من الفترة السابقة لصعود حركة التحرر الوطني في العالم العربي خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي، ما ترتب عليه إسقاط التطورات التي طرأت على الواقع العربي والعالمي في ظل الحقبة العولمية الراهنة. ولا شك في أن إغفال الصيرورة التاريخية وإسقاطها والتوقف عند الفكر العربي السابق ستؤدي إلى الخروج عن سياق المرحلة الراهنة في التاريخ القومي للشعوب العربية التي تشهد تحديات غير مسبوقة. وإذا كان الحديث عن الفكر القومي والوحدة العربية خلال الخمسينات والستينات يمثل جماع الطموحات الجماهيرية والنخب السياسية، إلا أن المرحلة الراهنة تشهد انحساراً ملحوظاً في ظل تخلي معظم الأنظمة العربية عن مسؤولياتها القومية علاوة على تشتت النخب السياسية والثقافية وعجز الجماهير عن ايجاد تنظيمات جبهوية قادرة على مواجهة بطش الحكومات ضد كل من تسوّل له نفسه التذكير بضرورة الالتزام بالمسؤوليات القومية، خصوصاً ما يتعلق بالقضية الفلسطينية التي كانت يوماً ما قضية كل العرب، فإذا بنا نجدها الآن أسيرة العرب. * كاتبة مصرية.