انشغل الوسط السياسي في لبنان لأشهر عدة بالحديث عن تسوية رسمت خطوطها العريضة كل من سورية والمملكة العربية السعودية حيث ساد الاعتقاد بأنها تكفل معالجة تداعيات القرار الاتهامي الذي يصدر عن المدعي العام في قضية اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري. وفي حين أنه بات من المسلّم به أن قدرة التنسيق السوري - السعودي بقيت محدودة بالنسبة إلى تغيير الأشياء التي تتصل بموضوع المحكمة الدولية أو بمضمون القرار الاتهامي، فإن من الواضح أن الذي كان متاحاً أمامها بلغ في حده الأقصى تنظيم العلاقة بين الأطراف وتكريس توزُّع ميزان القوى الداخلي ومن ثم تحصين مظلة التوافق العربي في ظل استعار الصراع مع إسرائيل وانتظار استحقاقات إقليمية قد تطاول لبنان خلال المرحلة المقبلة. السؤال الذي يُطرح أمام أي تسوية هو مدى قدرتها على التطرق إلى القضايا «الجوهرية» وعمّا إذا كان باستطاعتها طي صفحة الخلاف الداخلي الذي نشأ في ظل ظروف إقليمية ودولية مغايرة وطال موضوعي سلاح حزب الله والعلاقات اللبنانية - السورية وعناوين أخرى ساهم اتفاق الدوحة في تأجيل البت بها وإرساء قاعدة تعايش استمرت من أيار (مايو) 2008 حتى كانون الثاني 2011. البحث عن وسطاء خارجيين لصياغة تسوية بين اللبنانيين يأتي نتيجة فشل الحوار الوطني الداخلي؛ الذي دعا إليه الرئيس نبيه بري قبل اندلاع حرب تموز العام 2006 واستأنفه الرئيس سليمان بعد اتفاق الدوحة 2008 وتعطل بفعل الموقف من القرار الاتهامي وقضية الشهود الزور؛ في التوصل إلى تفاهمات راسخة حيث ظلت القضايا التي حظيت شكلياً بإجماع الأطراف عصيّة على التنفيذ. فدائرة التأثير المحلي في المجريات لا تزال محدودة، ومرجعية رئاسة الجمهورية والغطاء العربي والدولي الذي أعطي لها بعد الدوحة لم ينجح في خلق آليات داخلية تحسم القضايا الخلافية من خلال الحوار، ولو بالشكل. وذلك على خلاف النموذج العراقي الذي نجح في تظهير قدرة دينامياته الداخلية خلال لقاء أربيل الذي أقر مجموعة تفاهمات هيأت لها المشاورات الخارجية ومهدت لانتهاء أزمة الحكم الناشئة بعد الانتخابات. والشروط التي تضمن نجاح التسوية بين اللبنانيين ليست معزولة عن النزاع الإقليمي والدولي الذي لا يزال يتحرك بوتيرة متصاعدة فالمشهد الإسرائيلي يقفل الباب على تسوية قريبة ويفتحه أمام تصعيد جديد في المنطقة، والوضع في إيران لا يزال يربط بين الملف النووي وباقي الملفات في المنطقة على رغم الحديث عن تأثيرات تطاول الاقتصاد الإيراني جراء العقوبات الدولية وبالتالي فإن الاشتباك الإقليمي والدولي لا يزال قائماً ولبنان يبقى الساحة التي تتجاذبها المحاور الرئيسة في هذا الصراع. التسوية بالنسبة الى الأطراف اللبنانيين تعني الانخراط في جولة من جولات تنتظر ما بعدها تبعاً لما قد يطرأ في المستقبل ووفقاً للتوازنات التي قد تنشأ، وعليه فإن الجاهزية الداخلية لطرح حل جذري للخلاف الداخلي يتطرق إلى جوهر المشكلة ويتكفل بتطبيق الطائف من دون أي مراعاة، هذه القدرة لا تزال مفقودة على رغم أن العناصر التي تهدد بتفجير الأوضاع لا تقل بأهميتها عن تلك التي كانت قائمة قبل الطائف. لقد تطلب اتفاق الطائف الذي أنهى عقداً ونصف عقد من الاشتباك بين الأطراف اللبنانية زخماً إقليمياً أوْكل الى سورية والسعودية مهمة إدارة الحل في لبنان وإعادة توزيع «المصالح الاستراتيجية» لكل منهما بعد إقرار تعديلات داخلية قبلت بها الأطراف بعدما أنهكتها الحروب الأهلية. كانت المنطقة تقبل على تسويات كبيرة على قاعدة إطلاق مسارات التفاوض في مدريد وتأمين غطاء عربي لتطويع ومحاصرة صدام حسين وتهدئة الأوضاع في لبنان. وتكرّست التسوية بعدما حظيت سورية برضا دولي وإقليمي عن الدور الذي تلعبه على المستوى الاستراتيجي. الظروف ليست مشابهة اليوم، والحاجة إلى دور سوري يساعد في ضمان الاستقرار ويكبح الفتنة المذهبية في لبنان هو أولوية بالنسبة إلى سورية قبل غيرها بخاصة إذا نجحت في التعايش مع معادلة داخلية في لبنان تحفظ لها مصالحها الاستراتيجية وتضمن عدم وجود أطراف يعملون ضدها انطلاقاً منه وفي الوقت ذاته لا تكون مدخلاً للاشتباك مع المجتمع الدولي أو مع عدد من الدول العربية حيث لا تنشأ المعادلة عن حركة شبيهة بانقلاب 7 أيار. وذلك يفترض ان الالتقاء على التهدئة في لبنان يضمن لسورية موقعاً لا يظهرها طرفاً في الصراع الداخلي اللبناني ويعزز احتفاظها بالأوراق الاستراتيجية التي تؤدي وظيفتها في التوازن الإقليمي، ومن هذه الأوراق إضافة الى المقاومة، العلاقة السليمة مع العمق السني الذي يشكل المدخل الى علاقات سوية مع المملكة العربية السعودية وتركيا. لكن ذلك لا يكفي إذ سيفتح القرار الاتهامي نقاشاً من نوع آخر بين سورية والمجتمع الدولي. سورية بصفتها ضابطاً لإيقاع حلفائها في لبنان بالحد الأدنى، والمجتمع الدولي بصفته راعياً لعمل المحكمة الدولية ومتابعاً لتنفيذ قرارات الأممالمتحدة المتعلقة بسلاح حزب الله. وهذا النقاش إن بقي في إطار «التهدئة» الداخلية فذلك يعني نجاح مظلة ال «سين سين»؛ على رغم الانتكاسة التي تعرضت إليها؛ في فرض نفسها على مرحلة ما بعد القرار الاتهامي. لكن حتى هذه المظلة تصطدم بالوقائع المحلية التي لا يتوقف البت بها على الإرادة السورية وحدها. يراوح مآل البحث عن حل العقدة، التي يستعصي حلها، في لبنان بين حدّين، الأول هو تسوية داخلية عنوانها التعايش بين القوى تحت سقف يحدده الواقع الإقليمي والدولي وتلتزم الاطراف بشروطه على مضض والثاني تسوية دولية – إقليمية تترجم نفسها في لبنان وفقاً لتنظيم قواعد الاشتباك المتبعة في الشرق الأوسط وبظروف مشابهة لتلك التي حكمت اتفاق الطائف. * كاتب لبناني