من المفيد كثيراً أن يعود الذهن إلى الوراء نحو زمن سابق، ليُحَيِّن بعض ما كان يموج من فكر فيه حين كان يركّب متن مفاهيم أو اختيارات كانت مدوية وفاعلة، لكنها لم تعد كذلك بعد انصرام السنوات وحلول أخرى مختلفة وأقل فعلاً وقوة. ومن هذه الاختيارات ما كان يحمل اسم السينما الوطنية التي راجت طويلاً منذ نهاية السبعينات إلى حدود منتصف التسعينات. وقد ارتبطت وقتذاك بمنزع سياسي له ارتباط وثيق بما هو ثقافي، وكان الهدف إيجاد مجتمع عادل في كل شيء. وكان هناك اسم سينمائي بارز في خضم النقاش الذي يدور حولها صاخباً وقوياً وعميقاً. إنه محمد الركاب. مخرج مؤسس استقى المخرج الراحل محمد الركاب عشقه السينمائي من رفقة الحي الشعبي وهو يشاهد المخرج العصامي محمد عصفور يدير دواليب آلة عرض لجمهور، ثم وهو يدرس في الاتحاد السوفياتي رفقة مخرج من طينة كونشالوفسكي الذي كان صديقه، ولاحقاً في معهد فوجيرار بفرنسا. لم يأتِ من فراغ. بعد ذلك، درّس الصحافيين التصوير وأخرج وثائقيات للتلفزة، ثم دخل مرحلة تطبيق الحلم بالسينما والإخراج من أجل التعبير، وليس لكي «يخرج» فيلماً فيُحسب من الذين يُعَدون مخرجين. لكنه لم يُخرج، هذا المبدع المسكون بالسينما، سوى فيلم واحد شهير هو «حلاق درب الفقراء» عام 1982 عن سيناريو مأخوذ من مسرحية بالعنوان ذاته للكاتب يوسف فاضل. ثم توفي قبل أن يُخرج فيلمه الثاني «مذكرات منفى» حول القضية الفلسطينية الذي ظل مشروعاً مفتوحاً يحتاج إلى المنتج الجريء الحامل رؤيةً فنيةً والسيولة المالية اللازمة والقدرة على إخراجه. فقد كان المخرج يعاني لحظتها من مرض سيقضي عليه وفي الوقت ذاته على سينمائي واع ومبدع وحالم من الطراز النادر. اختبر الصفة هذه كل الذين عاشروه وكانوا مثقفين من شتى المشارب الإبداعية في زمن الأحلام الكبرى بسعة المدينة العملاقة الجحود التي احتضنته الدار البيضاء. الأحلام التي يلتقي حولها السينمائيون والكتاب والتشكيليون والمسرحيون في تمازج فكري خالص. الحلاق التحفة «حلاق درب الفقراء» حمل بذور سينما وطنية. موضوع من صميم الواقع المعيشي اليومي لما كان يسمى الطبقة الكادحة المقهورة التي تسكن في حي شعبي اسمه الحقيقي مرتبط الفقراء، ولم يكن كُنية مُختلقَة من طرف الكاتب والمخرج. هو حارة معروفة وسط الدار البيضاء. شخوصه يمكن ملاقاتها يومياً في الأزقة وسطيحات المقاهي وفي مداخل المنازل وغرفها الضيقة اللصيقة بعضها ببعض. وقائعه يمكن مشاهدتها عرضاً أو مباشرة عند المرور من جوانبه وعلى طواراته الممسوحة. من هذه الناحية، تبقى العنصر الأول لهذه السينما والمتجلي في النقل الحي المباشر لكن الذكي بواسطة كاميرا تعرف أين تُمَوقِع عدستها من أجل الوصف بعد النقل. وذلك حتى يتسنى فتح باب التأويل. وبالتالي، الإيحاء بواقع يجب أن يتغير وأن يصير أفضل وأحسن. السينما هنا أداة نضالية وإن لم تبغ هذا المرمى. لكن ليس هذا فقط، فهي تنقذ صفتها الفنية عندما تثير المشاعر وتوقع الأحاسيس. وهو ما حدث فعلاً، فالفيلم حاز إعجاباً كبيراً، وكتب عنه الكثير ونوقش طويلاً في كل النوادي السينمائية التي كانت كثيرة وقتذاك. وساهم محمد الركاب بارتحاله الدائم في ترسيخه وتكريس خياراته. ولا نظن أن مخرجاً وفيلماً في تاريخ السينما المغربية ارتبطا معاً بهذا الشكل، باستثناء «السراب» لأحمد البوعناني الذي قال في ملف تأبيني له في مجلة دراسات سينمائية: «محمد الركاب بدأ يشعر بالإعياء منذ «حلاق درب الفقراء» الذي نال منه وأتعبه كثيراً، لقد قام وحده بالإخراج والتصوير والمونتاج، وهو عمل كثير على سينمائي... عمل أكثر من شهرين في مونتاج الفيلم معرضاً لحرارة طاولة التوليف وبرودة القاعة ومصابيح الجهاز تطلق رائحة وحرارة جد مؤذيتين». السينما الوطنية التي انتسب فيلم الركاب إليها، هي السينما كالتزام في أوضح مثال، وهي تضحية في سبيل شريط شكل حلماً شخصيا أولاً ثم أملاً جماعياً بسينما مغايرة. هذه الأخيرة قوامها القدرة على الإبداع التخييلي والفنية المدروسة والعفوية في الوقت ذاته، في سبيل إبراز خصائص مجتمع عبر شخوص منتقاة. بعيوبها ومزاياها وفي حالاتها الأكثر ضعفاً لتبيان مقدار ما تختزنه من إنسانية قوية تستطيع المجابهة والمقاومة والانتصار أخيراً ليس ببلادة نهاية توافقية، بل بلقاء الذات والمصالحة معها ومع المحيط الذي تنتشر فيه مؤثَرة ومؤثِرة في آن واحد. هي سينما لا تجارية ولا استهلاكية من دون أن تفقد جماهيريتها وجاذبيتها السامية. لا يمكن نسيان وجه محمد الحبشي وأدائه الممثل البطل الذي كان علامة على هذه السينما، ولا العلاقات المرتبكة الحائرة الملتقطة بوجوه مكبرة تبين عن مكنونها بصدق، ولا الفضاءات التي يلعب فيها الضوء في معمار منذور ليحضن حكي الزمن الحي. كلها أسس مقاربة سينمائية تؤمن بقدراتها المستخلصة من عشق واضح واعتقاد راسخ في قوة الفن السابع على رفد الهمم من دون التفريط في المتعة. لقد كان «حلاق درب الفقراء» محاولة طيبة مُؤَسِّسة تأسطرت في ما بعد لأنها كانت أظهرت إمكان صنع سينما من صلب البلد وتاريخه ومميزاته، السينما الواقعية حقيقة وليس زيفاً. واقعية معلنة صراحة كانعكاس واع بالواقع المباشر. ووقتذاك كان الأمر مقيداً في سجل الأماني عكس ما يحصل الآن حين تحولت الواقعية إلى شعبوية في كثير من الأعمال المهزوزة لافتقاد بوصلة الثقافي الذي هو المنبع قبل كل شيء.