ككل فيلم يأتي بعد نجاح الفيلم الأول، كان عمل محمد العسلي الأخير منتظراً بشغف الفضول العام وتساؤل السينمائي المهتمّ. ليس لأن النجاح الأول كان جماهيرياً، بل لأنه كان فنياً في الدرجة الأولى. ف «الملائكة لا تحلق فوق الدارالبيضاء» الفيلم الأول للعسلي، شكل حدثاً إبداعياً مهماً ومفاجأة سينمائية في حينه. وذلك وفق مقاييس ثلاثة في رأينا: الذكاء والإبداع والمحلية المتألقة. وها هي المقاييس نفسها تتجلى عبر «أياد خشنة» فيلم العسلي الثاني، والكل تقريباً اتفق على ذلك. في المقام الأول لا يبدو الذكاء هنا معياراً للتفوق، ولكن علامة على القدرة على مراعاة ذكاء المتفرج. فالموضوع المختار هو من صميم معيش الإنسان بعامة والمغربي بخاصة. في انحداره الإجباري كما في لحظات سعادته الصغيرة، في الواقع المتعدد المبهم كما في الأحلام والطموحات للخروج من الدوامات المختلفة. الإنسان وهو يرى طيبوبته ومعدنه الأصلي في محك النوازع والأهواء والشرور. وهنا الأمثلة الأساسية تتمثل في طموح معلمة الروضة التي تود ملاقاة خطيبها المهاجر فتداهن للحصول على وثائق ثبوتية مزورة وتخشّن يديها كي تتمكن من العمل في حقول إسبانيا. ورغبة الحلاق الجار في توطيد كيانه الاعتباري وخلق سلطة صغيرة مؤثرة في محيطة الشعبي البسيط، بمحاباة زبائنه من علية القوم الذين يصفف لهم شعورهم ويجملهم، مساعداً في ذلك من طرف زميل له يقلم أظافرهم. حول هذه الشخوص وأخرى من النخبة أو من بسطاء القوم يعمل الفيلم على تقديم واقع إنساني قوي في واقعيته «الفجة» لكن الحقيقية، لأن المخرج لم يشأ التلوين والتزويق في رسم الشخوص وتقديمها، بل رسمها عارية كما هي إلا من مُمْكناتها المحدودة، وفضل البحث عن مواضيع من التي توجد بملايين المرات بعدد الساكنة البسيطة المطحونة. محمد العسلي يتجاوز خطّاً سينمائياً مألوفاً يسعى إلى التميز بخلق شخصيات مفارقة وإن لم تكن مغربية المحتد والطابع. ومن هنا الحديث عن احترامه ذكاء المتفرج بدل خداعه بتقديم صور نخبوية لا غير أو تيمات نخبوية أيضاً قد ترضي القلة المؤثرة ولا ترضي الكثرة التي تعول القلة. بانوراما متأنية وللنجاح في إيصال هذه الحيوات والأقدار التي تجاهد كي تخرج من عنق زجاجة الواقع المدمر، وتلك الحيوات الأخرى التي تسعى إلى النهل والخطف وتحقيق الذات عبر التدمير وإن عن لاوعي، ارتأى المخرج تأكيد خياره السينمائي الأول. أي توظيف بعض مزايا سينما الواقعية الإيطالية، مع نزوع ملحوظ إلى السينما التسجيلية، من دون مغامرة شكلية أو «عشق للصورة الخالصة». فالفنية هنا تلتزم بالمقاربة الصورية «العارية» المختصرة لكن التي تمت صناعة اختصارها بدقة كي تبلغ المراد. ولقد أتى هذا كله عبر تكرار لقطات البانوراما المتأنية الجميلة والموحية بعمق بما تحويه، وتوخي الإيقاع المساير للسرد في سلاسة عفوية، والمزج المتحكم فيه بين الحوارات المقتضبة القليلة والموسيقى المناسبة، وتوالي الوقائع وفق منطق داخلي غير مقحم، وإدارة مقتدرة للممثلين الذين تم اختيارهم بذكاء. لقد بدا واضحاً هنا أن ممثلي الفيلم الرئيسيين الثلاثة، محمد بسطاوي وهدى الريحاني وعبدالصمد مفتاح الخير، يشكلون أبرز عناصر ريبرتوار التشخيص الفني الأكثر تعدداً في أدواره، وهم معاً من طينة من يؤِدي الشخصية إلى حدود استبطانها، بخاصة في حكايات الناس البسطاء. وإذ تضاف إليهم الرائدة أمينة رشيد التاي، مثلت على مدى عقود طويلة دور المرأة البورجوازية الأرستوقراطية، يبدو جلياً أن المخرج اختارهم لأنه شاهدهم من قبل، ومن خلال المعروف عن عملهم، فارتسم الدور على الممثل بطلاقة ظاهرة. كما لو أن «الكاستينغ» صمم من المشاهدة القبلية وليس من السيناريو، أو أن السيناريو سهّل اختيار الشخصيات المغربية المعروفة في الدراما وفي السينما المنتجين منذ عقود. محلية متألقة أما عنصر الإبداع الإضافي في الفيلم فيتجلى كذلك في الصورة العامة المقدمة. صورة سينما لا تريد أن تفجر الفن ولا تريد أن تنتج فيلماً فيه سبق ما. كما أنها ليست صورة تمنح سينما تروي قصصاً وتكتفي هي بتصويرها فقط. السينما هنا لدى محمد العسلي تحقق التوازن المطلوب ما بين المحكي والمرئي. كلاهما يشكل الكل المؤثر. وطبيعة المواضيع هي التي فرضت الأمور في هذا الشكل. أن تحكي عن أعطاب بلد ومجتمع تتنازعه شتى السلوكات وشتى الأيديولوجيات، بلد يحاول أن يعيش أفراده ميزات العصر الحضاري الحالي كما لا ينفكون يحرصون على ثوابت أخلاقية وممارسات وعادات متأصلة، المعطى الحضاري الآخر الموروث. نعم، قد تبدو الصورة قاتمة وقاسية ومبالغاً فيها، لكن ديدن الفن السابع أن يُثور لا أن يداهن. وهو في فيلم «أياد خشنة» منتصر لأنه قدم قطعاً بليغة مؤثرة، مليئة بالشحن العاطفي اللازم، وإن بدت مقلقة ومحيرة ومشاكسة للهناء العام. «أياد خشنة» فيلم فيه قصص مغربية محلية محكية بقدرات سينمائية عالمية. السينما هنا لم تضطر إلى النهل من خارج ضفاف البحر والمحيط، ولا من وثائق خارجية فيها محاباة أو اقتناص لفكرة، ولا من مواضيع مملاة. وفي علامة حضرية تشترك مع العلم في حداثتها المتوحشة، بدت مدينة الدارالبيضاء المتعملقة بالحجر والإسمنت والزحام والعنف، والتي تشهد على انهيار علاماتها الثقافية الموروثة لتصير ميداناً لانهائياً لقسوة العيش، بدت مدينة منازلها مثل الأقفاص المعلقة جوار السطوح المترامية في اللقطة الموحية التي يبدأ بها الشريط في إشارة دالة ومعبرة. قدم محمد العسلي المعطى الاجتماعي المغربي بفضح اختلالاته، وقدم الممارسات الشائنة الشائعة فيه من تسلط ونفاق ومداهنة ووصولية وانتهازية واستغلال في طبقاته الميسورة والفقيرة كافة سواء بسواء، حيث الكل شريك في وضع غير مريح. وقدم صورة كئيبة على رغم جمالها الفني. وهنا لا بد من الإشارة إلى الظرفية التي خرج فيها الفيلم. نعرف جميعاً ومنذ الفيلم الأول، أن المخرج محمد العسلي ليس مخرجاً عادياً يكتفي بإبداع الأفلام. هو مخرج منخرط بقوة في الجدال العام الذي يعرفه المغرب من أكثر من عقد من الزمن. وله في ذلك تدخلات وأراء لا تتوافق مع أراء عدد من المخرجين وصناع السينما في البلد المعروفين، والدليل في ذلك كلامه والجدل الذي أحدثه حول فيلم «ماروك» لليلى المراكشي (أين هي الآن؟) قبل سنوات. السينما لديه «يجب أن تكون مغربية بوصفات محلية وعالمية فعلاً». ولكن حين تتجرد من التوجيه كيفما كان ومن أية جهة، وحين ترحب بشريطه هذا، شخصيات مؤثرة محسوبة على التيار المحافظ أمر مستحب ويستحق الانتباه... لكننا نود الإشارة في الوقت ذاته إلى أننا لا نحبذ كثيراً أن يتم زج الفيلم في خانة أفلام ما ضداً على الأفلام التي يخرجها مخرجون آخرون جريئون بطريقتهم الخاصة. نحب السينما الجميلة الكبيرة كما يبديها لنا شريط «أياد خشنة» وكل شريط يعلي من شأن الفن والإبداع كيفما كان طابعه.