على مقربة من منطقة كورانغي الصناعية، تمتد أراض زراعية خضراء شمالاً نحو نهر مالير. وعلى الضفة الاخرى تقع مدينة مهران التي شيدت على أراض عامة صادرها النازحون الباكستانيون من الارياف، وقسّموها الى وحدات سكنية يفوق عددها المئة. وتحيط بالعشوائية هذه مصانع مرتجلة، وتجهيزات صرف صحي، ومسالخ ومدابغ. وينزح نحو مليون نسمة سنوياً من الريف الباكستاني الى كراتشي، وينزلون على مثل العشوائية هذه. وتنتشر العشوائيات في ضواحي كراتشي، وتشيد فيها نحو 100 ألف مساحة سكنية، سنوياً. وموجات النزوح من الارياف تساهم في تأجيج النزاع بين الاحزاب السياسية الاثنية في كراتشي. ومدار النزاع على الاستحواذ على الاراضي وجباية الاموال واستمالة الموالين في أوساط النازحين. وفي مهران، تعلق اعلام الاحزاب السياسية على الوحدات السكنية غير الناجزة البناء. والجدران تغطى بشعارات الاحزاب. ويقول مسؤول في الشرطة المحلية إن وتيرة اعمال العنف والقتل بين المتنازعين على الاستيلاء على الاراضي والمنازل تتعاظم. ولا شك في أن الانتقال الى عشوائيات كراتشي يوفر لأفقر الفلاحين والعاملين الباكستانيين فرصاً كبيراً غير متوافرة في قراهم. وهذه تغلب عليها بنى ريفية اجتماعية تجمع بين نظام اقطاعي آفل واقتصاد مالي يتولاه وسطاء جشعون. ودينامية النزوح الى العشوائيات تعزز أبرز النزعات الاجتماعية في باكستان، وهي التمدين. واليوم، يعيش نحو 50 في المئة من الباكستانيين في المدن، في وقت لم يتعد عدد سكان المدن قبل 60 عاماً عتبة ال18 في المئة منهم. ومعظم النازحين قصد كراتشي، وهذه ارتفع عدد سكانها نحو 90 في المئة بين احصائي 1981 و1998. وكراتشي هي أكبر مدن باكستان، وعاصمتها المالية. وهي مصدر حصة راجحة من عائدات الضرائب الباكستانية، وفيها ينتج ربع الناتج المحلي الباكستاني. ويهيمن على الحياة السياسية في المدينة هذه حزب «المتحد القومي»، وهو يرفع لواء العلمانية ويزعم تمثيل أوسع مجموعة اثنية، وهي اثنية المهاجرين من الهند. والاوردو هو لسان أبناء الاثنية هذه، وهم يتحدرون من اللاجئين الذين غادروا الهند خلال الانفصال، في 1947. ولكن نفوذ الحزب هذا ينحسر، على وقع تعاظم حجم موجات العمال البشتون النازحين. فعلى رغم أن 50 في المئة من سكان كراتشي ينتمون الى اثنية المهاجرين، لا يسع حزب المتحد القومي، وهو لا امتداد له في الارياف، حشد مؤيدين جدد في أوساط النازحين. فعدد النازحين البشتون ازداد، اثر حملة مكافحة التمرد في 2002، شمال غربي باكستان. واضطر، يومها، ملايين الاشخاص الى النزوح نحو الجنوب. وتحاكي الاحزاب السياسية الاخرى سياسات «المتحد القومي»، وتتذرع بغياب المساواة بين الاثنيات لاستقطاب المؤيدين والمناصرين. ويسعى حزب «عوامي القومي»، وهو يزعم تمثيل 5 ملايين بشتوني، في تعزيز نفوذه. وهو تحالف مع حزب «الشعب» الباكستاني. ونفوذه راجح في المحافظات، وخصوصاً في مناطق السند والبلوشيين، وعلى المستوى الوطني، ولكنه قوة ثانوية في كراتشي. ويبدو أن وراء اندلاع حرب أهلية في كراتشي عجز «المتحد القومي» عن التكيف مع تزايد عدد السكان البشتون. ففي 2010، قتل 1400 شخص في عمليات تصفية لحزبيين ولأبناء الاثنيات المختلفة. وعدد قتلى عمليات التصفية في كراتشي يضاهي عدد ضحايا العمليات الانتحارية، في 2010. والعنف هو، في بعض وجوهه، ثمرة تصدي بعض أعضاء حركة «المتحد القومي» أو حزب «عوامي القومي» للدفاع عن «أبناء جلدتهم» في حوادث متفرقة منها، على سبيل المثال، التعرض لتلميذ من اثنية المهاجرين في طريق ذهابه الى المدرسة في مناطق البشتون، أو حين تفرض الأتاوة وأموال الحماية على «الأقليات» من السكان. ويجمع المراقبون ومسؤولون في الشرطة على أن العنف مرده الى علاقات وثيقة تربط مسؤولين حزبيين بجماعات اجرامية، وإلى سعي الاحزاب في السيطرة على الاراضي، وفي جنّي الأرباح وزيادة تمثيل قاعدتها الشعبية في مناطق الاقتراع المتنازع عليها. وإثر اغتيال زعيم «المتحد القومي» في آب (اغسطس) الماضي، قتل أكثر من 100 شخص، معظمهم من البشتون، في اعمال عنف توالت فصولها طوال 3 أيام. وانفكاء الدولة في كراتشي هو وراء تأجيج النزاعات الاثنية. فالحكومة المحلية في كراتشي عجزت عن التصدي لمترتبات توسع كثافتها السكانية. ولم تزود مناطق النازحين الجدد بمنازل، ولم تشيد بنى تحتية جديدة. فلم تمد المياه والكهرباء الى المناطق الجديدة، ولم توفر فرص عمل لشريحة واسعة من السكان. ولذا، اعتمد فقراء المدينة الجدد على مقاولين من أبناء اثنيتهم لتوفير الخدمات لهم. والمقاولون هؤلاء يستولون على أراض عامة، ويشيدون عليها وحدات سكنية يتولون تأجيرها الى أبناء جماعاتهم الاثنية. ويمدون الكهرباء والمياه الى المنازل هذه من طريق رشوة مسؤولين في البلدية وفي سلك الشرطة. ونحو 75 في المئة من أبناء العشوائيات يعمل في وظائف يوفرها اقتصاد الظل. وفي الاعوام الاخيرة، تقلص عدد الاراضي العامة الصالحة للبناء. ففي مطلع العقد الحالي، رهنت المؤسسات المالية الدولية منح الحكومة الباكستانية قروضاً ببيع شطر واسع من الاراضي العامة الى القطاع الخاص. وارتفع الطلب على العقارات على وقع تحفيز المساعدات الخارجية الاقتصاد الباكستاني، اثر حوادث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001. وأبرز ما يغذي العنف في كراتشي هو احتدام النزاع بين مجموعات اثنية مافيوية على السيطرة على ما تبقى من الاراضي العامة. والتنافس على الاراضي تنامى اثر تدفق النازحين من المناطق الريفية الى كراتشي جراء السيول والطوفان. وتسعى الاحزاب في استمالة النازحين اليها. وأغلب الظن أن تضطر النخب السياسية، على وقع تدفق آلاف من النازحين الفقراء، الى تناول مسائل أرجأت معالجتها. فهل يستطيع قطاع الخدمات استيعاب هؤلاء وتوفير الدعم لهم؟ وإذا أفلح في ذلك، توسعت أدنى شرائح الطبقة الوسطى. ولكن هل تتصدر أولويات الطبقة الوسطى الجديدة فرص العمل والتعليم والعناية الصحية أم تطالب الطبقة هذه بحقوق اثنية سياسية؟ وفي كراتشي، ساهم توسع الطبقة الوسطى في تغيير المجتمع. فأبناء أدنى سلم الطبقة الوسطى يرتادون مدارس مهنية خاصة، ويتخصصون في التكنولوجيا المعلوماتية على أمل الالتحاق بشركات القطاع الخاص. وتلتحق الشابات بالجامعات في كراتشي، وفاق عددهن عدد الذكور. وارتفعت نسبة الشباب المتعلم والاعزب في كراتشي. ولكن هل تستطيع الحكومة انتهاج سياسات تواكب حركة التمدين المتعاظمة، في وقت بلغت نسبة التضخم المالي 15 في المئة؟ وهل يتعاظم نفوذ الاثنيات في أوساط الطبقة الوسطى الجديدة، في وقت ينحسر النمو الاقتصادي؟ وأغلب الظن أن تفاقم خيبة أمل ابناء المدن الباكستانية اضطراب الطبقة الوسطى الايديولوجي. فعدد لا يستهان به منهم يؤيد الناشطين الاسلاميين. فإثر اغتيال حاكم البنجاب، تيسير سلمان، انضم آلاف الباكستانيين من الطبقة الوسطى الى مجموعة تؤيد قاتله على موقع «فيسبوك». وعدد كبير من مؤيدي قاتل سلمان هم من خريجي الجامعات الباكستاية الذين يجمعون بين تأييد اغتيال حاكم البنجاب والميل الى نزعات ثقافية غير اسلامية مثل اغاني مغني الراب، ليل واين، وبرنامج «فاميلي غاي» التلفزيوني. * صحافي مركز عمله بين كراتشي ونيويورك، عن موقع «فايننشل تايمز» الاميركي، 6/1/2011، اعداد منال نحاس