عندما يعبرون بسياراتهم البيضاء الممزوجة بالصفرة الطرقات، يراهم الآخرون فيظن أن مهنتهم من بين قائمة المهن المرفّهة، على اعتبار أنهم يعملون تحت عاملين يرى البعض فيهما ترفيهاً (التكييف والعمل جالساً)، لكن الأكيد هو أن دخل أصحاب هذه المهنة ليس ضمن أسوأ المهن دخلاً. محمد فهد العسيري الذي جاوز ال(40) ربيعاً بقليل، هو أحد الشبان السعوديين الذين (وفق ما تمنى أن يعرّف) يسعون لمقاومة مد سائقي الأجرة من الآسيويين، يمتطي من بزوغ فجر كل يوم سيارته في رحلة البحث عن اللقمة الحلال، التي وصفها ب«الصعبة والشاقة أحيانا». ويمضي العسيري غالبية يومه، أي ما يعادل 13 ساعة يومياً في التجول في طرقات جدة بحثاً عن ركاب، يرى أنهم باتوا قلة بعد أن فاضت جدة بسيارات الأجرة التابعة للشركات على رغم كثرتهم لسرعة تلاقف سيارات الأجرة لهم. وبعد أن أخذ أنفاسه قليلاً، واصل حديثه بالقول: «هذا الوقت الطويل الذي أمضيه على هذه السيارة باحثاً عن ما يكفيني عن الفاقة أنا وزوجتي، لكنه يتسبب لي في بعض الأحيان في آلام في الظهر لم أجد بداً من الاستسلام لها، حينما تشتد علي فاضطر للعودة إلى منزلي. ويربط عسيري بين ساعات عمله ومقدار الدخل اليومي الذي لم يتجاوز حاجز ال 200 ريال كحد أقصى وهو ما يؤكد حدوثه نادراً. وعن المواقف التي تواجهه، أوضح أن تحرش بعض الزبونات به دفعه في أحيان عدة إلى الهرب من سيارته وتركها إلى حين مغادرة تلك الراكبة، مشيراً إلى أن هذا الأمر أقلقه لدرجة أنه لم يعد يسمح بحمل النساء في مركبته إلا المسنات منهن. ويحفل العاملون في سيارات الأجرة بالكثير من المواقف الصعبة، إذ كشف سمير خان (وهو سائق أجرة أجنبي) تعرضه في إحدى المرات إلى الضرب والنهب من مقيم أفريقي طلب منه توصيله إلى حي «الكارنتينة» مقابل 40 ريالاً استبشر في قرارة نفسه بالمبلغ الذي لم يعلم أنه لم يعد مجرد فخٍ سيدفع مضاعفاً مرات عدة، إضافة إلى سيارة الشركة المستأجرة، وقال: «بعد أن توغلت به في ذلك الحي بدأ ينتابني نوع من الخوف وتنفست الصعداء حينما أشار لي بوصوله إلى المكان المطلوب، وبينما أنا في انتظار منحي مبلغ الأجرة وإلا ضربات موجعة أصابت ظهري ووجهي وتم إنزالي من السيارة، بعد أن انضمت إليه مجموعة سرقوا الفلوس التي في جيبي ولم يكتفوا بهذا فحسب بل ذهبوا بالسيارة. ولم يتبرم خان من خوفه من تكرار هذا السيناريو، الأمر الذي دعاه إلى تجنب الدخول إلى الكثير من الأحياء الشعبية في جدة، مؤكداً أنها باتت في القائمة السوداء، مشدداً على أن المواقف التي حدثت معه جعلت لديه «فوبيا» من دخول تلك الأحياء مكتفياً بالوقوف أمامها دون التعمق داخلها مهما كان مبلغ الأجرة. ويعمل خان منذ فترة بعيدة في هذه المهنة، مبيناً أن الشركة المنتمي إليها وضعته أمام خيارين الأول دفع أجرة يومية تبلغ 150ريالاً أو أن يتناوب مع سائق على سيارة الليموزين طوال اليوم والليلة مقابل دفع كليهما 200 ريال يومياً، ولم يخف تدني دخله أخيراً منه قبل ما يربو على ال12 عاماً الماضية، ما حمله إلى القبول بالخيار الثاني وعلى رغم ذلك فإن متوسط الصافي من عناء ال12 يتراوح فقط بين 40 إلى 80 ريالاً عدا يومي الخميس والجمعة اللذين يعول عليهما كثيراً، إذ يقضي الاتفاق بينه وبين الشركة على أنهما ليس للأخيرة مقابل فيهما. وبعيداً عن المعاناة، يروي (م ف) أحد الشبان الذين لهم تجربة مختلفة مع سيارات الأجرة كانت سبباً في استقراره ورغد عيشه، بعد أن كان طريق (جدة - جازان) أنيسه الأوحد ومصدر رزقه. ويحكي أنه في إحدى المرات أثناء توجهه من صبياء إلى القنفذة ركب معه رجل مسن، لم يكن يرى فيه غير مصدر للقلق بيد أنه لم يتوقع أن يكون مصدراً لاستقراره ونقطة تحول في حياته. وزاد: «ظل الرجل يتبادل معي أطراف الحديث طوال الطريق إلى أن وصل إلى حيث أراد (القنفذة) وبعد أن هممت بوداعه طلب مني النزول معه لاحتساء القهوة فاعتذرت منه، لكنه لم يأبه بالإصرار على النزول وتعللت بتدارك الزمن في الرجوع إلى صبياء لكن رفضي مقابل إصراره لم يكن مثنياً للمسن عن الدخول بصحبته إلى منزله. وأضاف: بعد تناول القهوة، قال لي: «هل ترغب في الزواج؟» فأجبته على الفور برغبتي الملحة التي يقف أمامها عدم امتلاكي ما يعينني على كلفته، فأمسك بيدي وضرب على ظهري وقال: «إن كنت ترغب حقاً فليس هذا ما يعيق»، ثم فاجأني بعرض الزواج من ابنته «المعلمة»، وألمح إلى أن حكايته مع ذلك المسن أثمرت عن زواجه من «معلمة» وامتلاكه مسكناً وسيارة خاصة، وهو لا يرى في سرد قصته حرجاً لكونه لم يترك مهنة سائق أجرة، مؤكداً أنه يتعاون وزوجته على ظروف الحياة، إذ كثيراً ما تقف معه من دون حجر من والدها أو إخوانها، في كثير من الأحيان، وهو في المقابل لا ينقطع عن مهنته الأساسية وعمله على متن سيارة الأجرة، إذ يجد في ذلك دليلاً قاطعاً على صدقية نواياه ومحبتهما التي أسست أسرة متفاهمة ومتناسقة.