ثمة تقليد قديم في العمل الديبلوماسي البريطاني هو ان يرسل السفير لدى انتهاء عمله في عاصمة ما تقريراً وداعياً عن مشاهداته وأفكاره. وكانت مارغريت بيكيت، وزيرة الخارجية في حينه أوقفت هذا التقليد سنة 2006 بعد تسريب بعض التقارير الوداعية ما أوقع الحكومة في حرج كبير والمادة المنشورة تنتقد شعوباً وحكومات، وتنتقد أيضاً أداء الديبلوماسية البريطانية والعلاقة بين السفارات والوزارة في لندن. وكنت أجمع مادة للمقال الخفيف المنشور أمس عندما وقعت على كتاب من تأليف ماثيو باريس، وهو صحافي ومؤلف معروف يكتب تعليقاً لجريدة «التايمز»، وأندرو برايسون، وهو صحافي يعمل في «بي بي سي». الكتاب عنوانه «رصاص الافتراق» أو الوداع، وهي عبارة لم أجد ما يعادلها بالعربية، والمقصود إطلاق رصاص الغضب، والمواجهة منتهية، بمعنى التنفيس عن هذا الغضب بكلمات لاذعة قبل الرحيل. المؤلفان حصلا على التقارير الوداعية للديبلوماسيين بموجب قانون حرية المعلومات، ووجدت بعض المادة من مستوى تسريبات ويكيليكس أو أهم، لأن كل تقرير يحمل اسم صاحبه، وهذا عادة سفير، وليس ديبلوماسياً مجهول الاسم كما في البرقيات التي ينشرها الموقع الإلكتروني. وهكذا فقد قرأت والديبلوماسيون البريطانيون يغادرون البلدان التي عملوا فيها الآراء الآتية: النمسا، بلد لا يفكر النمسوي فيه بغير «شنتزل»، وهي طعام شعبي من اللحم بغطاء من الخبز. ايسلندا، شعبها غير مريح للتعامل معه. سويسرا، فريسيون (بمعنى من التوراة انهم متعجرفون أو متكبرون على الآخرين)، وأيضاً ليسوا أجمل الناس أو أخفهم دماً. فنلندا، بلاد مسطحة وليست القلب النابض لأوروبا. ألمانيا، ينحون باللائمة علينا لخسائرهم، وأيضاً: التلفزيون الألماني ثقيل الدم. ليبيريا، يصعب جداً عليهم العمل أو البقاء مستيقظين، وأيضاً: من الصعب جداً أن تحب البلد أو الشعب. الأرجنتين، شعب يستعصي حكمه. أوروغواي، تقريباً كل أخطاء اسبانيا، ولا شيء من فضائلها. الهند، كمية هائلة من التفاهة. تايلاند، الانحلال الخلقي أسلوب حياتهم، وأيضاً: نموذج عصري من سدوم وعمورة. اليابان، شعب عاطفي جداً يميل الى الانتحار، وأيضاً: لا فلسفة متماسكة للعيش عندهم. اندونيسيا، ميل طبيعي نحو العنف. الولاياتالمتحدة، بعض أكثر الناس غروراً ممن قابلت في حياتي، وأيضاً: مجتمع جديد متعجرف وأناني. كندا (عن رئيس الوزراء بيار ترودو) لا أحد يفهمه، وأيضاً: لا يرى الإنسان هنا صدام المواهب الذي يراه في بريطانيا. نيكاراغوا، المواطن النموذجي مخادع من دون أخلاق، وهم يمارسون العنف. ويدمنون على الخمر، ومستوى الكفاءة المحلية من أدنى ما رأيت في حياتي. إيران (بعد ثورة 1979) السفير يترحم على الشاه ونظامه. ثم هناك بعض الدول العربية، فالكتاب ينقل التقارير الوداعية للسفراء في مصر والمملكة العربية السعودية وسورية ولبنان والكويت وتونس وليبيا. ولن أنقل رأي الديبلوماسيين فينا، حتى لا تمنع «الحياة» في هذا البلد أو ذاك، ثم إنني لو فعلت سأصر على معاملة الجميع على قدم المساواة، وبعض النقد قاسٍ الى درجة العنصرية، كما هو بالنسبة الى ليبيا. ما أقول هو ان الديبلوماسيين العاملين في البلدان العربية يسمونهم «سلك الجمال»، وبعضهم يتعاطف مع القضايا العربية، فلا ننسى ان 52 ديبلوماسياً بريطانياً وقّعوا رسالة منشورة تعارض الحرب على العراق وتهاجم حكومتهم. وأثار اهتمامي بشكل خاص ان أقرأ رسائل صديقين هما السفيران السير جيمس كريغ الذي عمل في عواصم عربية عدة منها دمشقوجدة، قبل نقل السفارات الى الرياض، والسير ديفيد غوربوث الذي عمل في الرياض ثم نيودلهي وتوفي سنة 2004. كريغ وغوربوث من المستعربين الذين درسوا في معهد اللغات في شملان، أو «مدرسة الجواسيس» المشهورة، والسير جيمس متمكن من اللغة العربية والى درجة تعليمها في أكسفورد، وهو والسير ديفيد ناصرا العرب بشجاعة، رغم ان آراءهما في الحكومات دون ذلك. البريطانيون يتحدثون عن بلاد العالم كأنهم قادمون من المدينة الفاضلة فأذكّر القارئ بالقول ان الشمس لا تغيب عن الإمبراطورية البريطانية (الراحلة) لأن الله لا يثق ببريطاني في الظلام... ونحن لا نثق به في وضح النهار أيضاً. [email protected]