بمجرد أن ظهر خبر يقول بأن الشيخ عائض القرني قد أعطى الفنان محمد عبده نشيداً دينياً وبشروط يظنها الشيخ عائض لا تخرج عن دائرة المباح، (بلا وتر ولا عود)، حتى ضجت ساحة الرأي والجدل، تهاجم الخبر. لم أجد في هذا الهجوم صديقاً يذود عن القرني ويرضى بما فعل، فأصحاب التيار الليبرالي المعروف بانفتاحه وقبوله للآخر هاجموا القرني، زاعمين أن الشيخ يخلط الأيديولوجيا بالفن، ويستغل شهرته ليمرر الأيديولوجيا عبر صوت فنان كبير يستمع له الآلاف من الشباب، ويستخدمه منبراً لدعوته، معتبرين أن هذا التكتيك هو بادرة خطرة لتغلغل الأيديولوجيا الدينية إلى الفن، أما التيار الأصولي المتشدد فقد هاجمه أيضاً، واصفاً فعله بأنه خروج عن الدين، باعترافه بالفن الحرام وبفنان يمارس فناً محرماً، وأن تغنيه بنشيد إسلامي هو خلط الطيب بالخبيث. ماذا فعل بالضبط عائض القرني ليحصد كل ما حصد؟ وهل ما حدث هو أكثر من نشيد شعري رقيق أُعطي لصوت سحري رقيق، يهدف صاحباه لصناعة نشيد يلمس القلب ويرققه؟ إن ظاهرة غناء محمد عبده لنشيد القرني، هي شبيهة بكل ظواهر خطف الفعل الفني والثقافي والإبداعي من سياقه وزجه في سياق الأيديولوجيا المتعصبة، والمتوترة بنظرية المؤامرة، التي تشكك بالنوايا، وهذا بالضبط هو حصاد منهج الشك والتخوين وسوء الظن الذي أصبح عماد تفكيرنا وتمحيصنا وزيادة الضغط على دواسة فحص ما هو حلال وما هو حرام، حتى إن تحية مثل حياك الله استوقفت شيخاً ليبحث هل هي جائزة أم لا، وبعد بحث وتمحيص عاد لتلامذته يبشرهم أنها جائزة! لم تعد حياتنا طبيعية ولا انسيابية، ولم يعد العقل يعمل بدوافعه، بل بسيكولوجيا الوهم والأساطير والمؤامرات. كل منتج فكري يصدر في بيئتنا لا يؤخذ أبداً بماذا يقول؟ بل بمن هو صاحبه، ليشق قلب صاحبه، وتحلل نواياه، ويحاكم بحسب ما نظنه فيه لا بما ظهر منه. منهج الشك ليس على طريقة ديكارت العلمية، بل منهج الشك السلبي غير المطمئن المخوّن للآخر هو الذي جعلنا اليوم ننتزع نشيداً روحانياً من سياقه، ونشوّه أصحابه، فمن له الحق أن يحكم على ظاهرة فنية تجمع طرفين من وطن وعقيدة واحدة، يشتغلان بالشعر والغناء؟ أم أن المسألة - بحسب أصحابها - لا تحتمل هذا التبسيط؟! حسناً... ماذا تحتمل إذاً، حرباً وسجالاً يشبه سجالاتنا العظيمة التي من نتائجها رفض جامعة مثل جامعة الإمام لناقد مفكر مسلم مثل الدكتور عبدالله الغذامي، ورفض نادٍ أدبي كنادي الرياض الأدبي أن يستضيف مناظرة بين تركي الحمد وسعد البريك؟ من ماذا نخاف وعلى ماذا نخاف؟ لقد سممتنا الشكوك، فصرنا نشك في مواطنينا، ومواطناتنا، وفكرنا وفننا ومسرحنا، أصبحنا فرقاً وجماعات، لا يطمئن بعضنا سوى لنشر الرقباء في كل مكان، وأن يمارس الأوصياء التفكير عنا، والتحذير من بعضنا، ويرسموا لنا مستقبلاً مليئاً بالخوف؟! إن هذا الحوار الذي اختنق حتى كاد أن يخنقنا ليس سوى مؤشر خطر على أننا فاقدون للثقة بأنفسنا وبعقولنا، يكرس الخوف والشك حتى صار وسواساً عقلياً لا يقود إلا للجنون! وإلى حياة فارغة من الحياة! [email protected]