اختار المصور الفوتوغرافي الفرنسي كلود إيفيرني السودان محطة أساسية في مسيرته الفنية الحافلة. وتكرّم «مؤسسة هنري كارتييه بريسون» (Henri Cartier-Bresson) في باريس هذا المصور من خلال معرض كبير لأعماله بعنوان «بلاد السودان»، يضم أبرز الصور التي التقطها في السودان خلال مرحلة طويلة تمتد من نهاية تسعينات القرن العشرين إلى الحاضر. يذكر أن هذه المؤسسة التي تحمل اسم المصور الفرنسي العالمي الراحل هنري كارتييه بوسون، وهو من مؤسسي وكالة «ماغنوم» (Magnum) الشهيرة للصور، تمنح كل عامين جائزة لمصور مميز، وكان آخر من فاز بها في العام 2015 كلود إيفيرني عن أعماله في السودان. كلود إيفيرني المولود العام 1963 يحتل مكانة خاصة في تاريخ التصوير الفرنسي. بدأ حياته مصوراً للموضة، إذ عمل في بداياته لدى دار «بيار كاردان» للأزياء وتابع عمله مع استوديو «بين آب». غير أن عالم الموضة والإعلانات لم يكن ليرضي طموحه الفني، فاختار وجهة أخرى. ترك فرنسا وسافر عام 1998 إلى «درب الأربعين»، وهو الطريق التاريخي الذي يصل مصر بالسودان ويمر بمناطق عدة منها دارفور، وقد ارتبط تاريخياً بتجارة الإبل. تعلّم العربية وأسس العام 2003 «جمعية النور» للتعريف بالسودان ومبدعيه، ولجمع كل ما يتعلق بالصور الفوتوغرافية في هذا البلد، تلك الصور التي تعكس تحولاته الاجتماعية والثقافية منذ خمسينات القرن الماضي. كما أن معرفة إيفيرني العميقة بالواقع السوداني المعقد جعلته واحداً من المتحدثين عنه في المؤتمرات واللقاءات الدولية وفي الصحافة. هذا الوعي الثقافي للموضوع الذي يعالجه إيفيرني يتجلّى أيضاً في الأفق الواسع الذي تتميّز به أعماله. الصورة الفوتوغرافية، هنا، تكتسب قوّتها من هذا الوعي إذاً، إضافة إلى بعدها الجمالي وتقنيات إنجازها. كما أنها تعكس حساسية فنية عالية تجعل بعض الصور تحفاً قائمة بذاتها، خصوصاً عندما تلتفت إلى المدى الصحراوي القاحل، وتتلاعب بالضوء والعناصر القليلة التي ينطوي عليها ذاك المدى. بعض الصور تبدو فيها الصحراء مأهولة، لكنّ ساكنيها الذي يجوبون فيها أو الذي يقتعدون الرمال وأمامهم بعض الأواني، هم مجرّد نقاط صغيرة مبعثرة في المساحة الصحراوية الشاسعة، وتُظهر حجم الإنسان الفعلي في الطبيعة. في لقطات أخرى، يغيب الإنسان من المشهد وتحلّ محلّه أهرام متجاورة وبقايا صروح أثرية، لكنها هي أيضاً بعيدة وحضورها متواضع وبسيط في قلب مشهد لا حدود له. هناك أيضاً، داخل هذا الخواء الكبير، صور الحيوانات النافقة، كأنّ الزمن توقّف في أرض خالية من أيّ نبات. تختلف الصورة عندما يقترب المصوّر من المدن. نحن هنا وجهاً لوجه مع قسمات وملامح تختصر قساوة العيش في واحدة من دول العالم الثالث الفقيرة. ملمح الفقر يكسو كل شيء، العمارة والشوارع والمحلاّت وبيوت الطين وحتى السيارات القديمة المركونة إلى جوانب الشوارع. ومع ذلك، تكشف الصور كيف أنّ الشركات العالميّة تخترق القارات وتساوي بين غني وفقير. بل إن الفقراء، بالنسبة إليها، وعلى الرغم من فقرهم وعوزهم، هم أيضاً أدوات للاستهلاك. في هذا السياق، تطالعنا في الصور لوحات دعائية ضخمة تعلن عن منتجات لشركات باحثة عن الربح حتى في الزوايا المنسية من العالم. بحساسية شعرية كبيرة أنجز كلود إيفيرني أعماله، وأظهر معرفته وتعلّقه بالأمكنة التي يصوّرها، وبذاك المكاFن بالتحديد: السودان. في تقديمه للكاتالوغ المرافق للمعرض، كتب: «أقلب الصفحة. أبقى هنا، والصور تتوالى الواحدة بعد الأخرى». وهو يريد أن يقول من خلال هذه الكلمات إنه ثابت في مكانه، لكنه يلحظ كلّ شيء، ويلتقط أدقّ تفاصيل الحياة من حوله. ليختم: «هنا، لا شيء حقيقياً، فبين الصدوع والخطوط الكثيرة المتداخلة، تولد المخيّلة».