تكتشف الأمم نفسها، وتظهر أفضل ما لديها وهي تتحرك على مسارات التاريخ، تُعمل إرادتها فيه. وفي المقابل، فإنها تفقد أعمق خصالها، وتطفح بأسوأ ما فيها عندما تتباطأ حركتها أو تصل إلى حد الجمود. فهنا يعوزها ذلك الشعور العميق بالشخصية الجماعية والإرادة الكلية التي بها تتحرر من العجز، وتشعر بالسيطرة على مصيرها. ولعل فاجعة كنيسة القديسين في الإسكندرية، تلك التي أودت بحياة أكثر من عشرين مصرياً غالياً، وأصابت نحو الثمانين، فأحالت احتفالاً سعيداً بقداس الميلاد المجيد إلى مأتم وطني كبير، سواء باسم الله، أو الإسلام، وسواء كان الفاعل مصرياً أو اجنبياً، إنما تشي بما وصلت إليه مصر من ركود سياسي طويل أدى إلى تعفن المجتمع، وانحراف الوعى الدينى إلى ذلك النمط البدائى من التدين، الذي يقوم على الغلظة ورفض الآخر، لدرجة استباحة وجوده كاملاً. فبعد ربع القرن من إبطاء الحركة، وصلت مصر الى حد الركود الشامل، وبدأت تعاني بعض أعراضه الجانبية، وعلى رأسها ظاهرة العنف الطائفي التي لا تكاد تتوقف حتى تتفجر في كثير من أنحاء مصر، التي باتت تعرف هذه الظاهرة وبخاصة في المناطق العشوائية في القاهرة الكبرى حيث يشيع الفقر، وينسدّ أفق الحياة، ويغيب الأمل، أو في جنوب الصعيد حيث يشيع الجهل، وتتحكم التقاليد البالية وبخاصة عادة الثأر. لكن الجديد والغريب الآن أنها، في السنوات الخمس الماضية، أخذت تطاول مدينة الإسكندرية، أعرق جغرافيا للتسامح في العالم كله من دون مبالغة، فهي المدينة الكوزموبوليتانية بامتياز، مدينة العالم القديم والوسيط والحديث، مدينة الأجناس والأعراق، مدينة الملل والنحل جميعاً. فكيف استسلمت المدينة، التي عرفت التسامح طيلة تاريخها، للتعصب؟ وكيف صار المكان، الذي استوعب كل الأجناس تقريباً من يونانيين وإيطاليين وفرنسيين وإنكليز ويهود وأرمن وغيرهم، يضيق بالمصريين أنفسهم، مسلمين وأقباطاً، أولئك الذين ظللوا يجسدون استمراراً تاريخياً لمرحلة فلسفية ونهضة فكرية ونكهة دينية خاصة لهذه المدينة منذ دخلتها المسيحية في القرن الأول الميلادى على يدي القديس مرقص، لتتخصب على أرضها بحكمة مصر والشرق الأدنى القيم الأخلاقية والروحية والعملية التي كانت قد غذت العقلية اليونانية ومكنتها من أن تفرز نظاماً نظرياً متكاملاً للحكمة الفلسفية، استطاعت مصر البطلمية ثم الرومانية من خلال المدرسة الاسكندرية إعادة توظيفه في إطار سعيها الرائد للتوفيق بين العقل والإيمان، لمصلحة الإيمان المسيحي، كما استطاعت الثقافة العربية الإسلامية استيعابه وإخضاع مذهبه في الربوبية، لإلهام العقيدة الإسلامية في الوحدانية المطلقة. بل إن الفيلسوف اليهودي سعديا يوسف والذي نشأ بما هو الآن في محافظة الفيوم، إبان القرن العاشر الميلادي، وتنقل بين الإسكندرية وبغداد، والقدس قد تتبع مساجلات علماء الكلام وبخاصة المعتزلة، مع الفلاسفة المسلمين محاولاً تطبيقها على الديانة اليهودية فألّف في ذلك كتابه «الإيمان والعقل» في الموضوعات الأساسية لعلم الكلام كالخلق والتوحيد والوحى والقضاء والقدر والثواب والعقاب وغيرها. كما أن الفيلسوف اليهودي ابن جبيرول الذي عاش في القرن الحادى عشر الميلادى وقام بترجمة مذهب أفلوطين في الربوبية، ظلت هويته ملتبسة لنحو سبعة قرون يحسبه بعض المفكرين الأوروبيين من فلاسفة المسيحية، وبعضهم الآخر ينسبه الى فلاسفة الإسلام لتشابه آرائه «العقلانية» مع الأصل الواحد للأديان السماوية، حتى كشف مستشرق يهودي آخر هو سلمون مونك عن هوية ابن جبيرول اليهودية. في كل تلك المراحل كانت الإسكندرية شاهدة عصر على الحوار بين الثقافات، وكان طبيعياً ألا تعرف التعصب طيلة تاريخها، اللهم في ما ندر، مثلما صار غريباً أن تشهد تلك الطائفية القبيحة في حاضرها. لماذا صار النادر والغريب واقعاً مشهوداً، ولماذا تفقد مصر كل يوم بعض أفضل خصالها؟ ربما كان التفسير الأكثر معقولية يتعلق بذلك الحضور الملتبس للدولة في حياة المصريين بين حضور أمني كثيف بغرض الضبط والقسر، وحضور سياسي خفيف لا يفي بمهمة القيادة والتوجيه. فهنا ولدت ونمت أزمة الثقة بينها وبين المجتمع الذي صار مدركاً لعجزها عن إلهامه وتوجيهه، ولذا أخذ يعيد ترتيب حياته في غيابها، ثم تفريغ شحنات غضبه في وجهها. ففي مثل تلك المراحل التي تنزوي فيها الدولة كإطار يستوعب حياة الناس ويلهمهم حس اتجاه نحو المستقبل، تبدأ بدائلها في الظهور لتسد حاجات الناس... ومن هنا، فإن النعرات الجهوية والإثنية والدينية وربما القبائلية لا بد من أن تتصدر الساحة باعتبارها تجسيداً للانقسامات المجتمعية البدائية والتي تصير هي الانقسامات الأبرز التي تتصارع وحداتها لوراثة دور الوحدة الكبرى أو اللحمة الوطنية. ولعل الأمر المشهود في العقدين الماضيين هو تحول الكنيسة، والمسجد في مصر من مجرد دور للعبادة تشهد ممارسة طقس روحي ديني، الى مجمعات متكاملة تقدم خدمات دنيوية متعددة لفقراء الجانبين، حيث صارت المساجد والكنائس بديلاً عملياً للمستشفيات والعيادات الصحية، وكذلك لتجمعات الدروس الخصوصية بعد فشل المدرسة في تقديم خدمة تعليمية جيدة وتفشي مافيا الدروس الخصوصية، وأيضاً أماكن لإقامة المآتم وأخذ العزاء، أو للاحتفال بعقد القران وطقوس الزواج المحدودة، كما صارت الكنيسة والمسجد يضطلعان بدور اجتماعي واضح في حياة أعضائهما من خلال تنظيم رحلات ترفيهية، أو معسكرات رياضية، أو حلقات دعوة وتوعية دينية في مناطق بعيدة من مكان الإقامة. وما من شك في أن هذا الدور المتعاظم للمسجد والكنيسة، مع ضمور دور الأحزاب السياسية، وضعف بنيوي لدور المنظمات الأهلية، وهيئات المجتمع المدني، وفي ظل تراجع دور الدولة الرعوي، وفي الوقت نفسه تغوّلها السياسي والأمنى، إنما يزيد من سيطرتهما، أي الكنيسة والمسجد، على مقدرات الإنسان العادي، ويمنحهما دوراً أكبر في تشكيله حيث تمثل الجرعة الدينية أو الطائفية مقوماً أكثر كثافة في تركيب الهوية الفردية على حساب القيم الوطنية العامة التي طالما مثلت إطاراً جامعاً للانتماء، والهوية، وبوتقة صهر مشترك لعناصر المجتمع المصري في أغلب مراحل تاريخه التي كان يستشعر في بعضها وجود تحديات خارجية كبرى تستفز همّته لمواجهتها، وفي بعضها الآخر قدرة الدولة على تبني أهداف كبرى سواء في تحديثه وزيادة رفاهيته ومن ثم قدرته على الإمساك بمصيره، أو في تأكيد دور مصر الإقليمي ومن ثم قدرتها على التأثير في محيطها وعالمها، ما كان يصوغ، في المجمل، مشروعاً وطنياً يستحق الحياة من أجله والاندماج فيه، ويمنع التشرذم والتفتت الناجمين عن غياب حس الاتجاه الى المستقبل، والذي يعاني منه المصريون الآن ويثير لديهم الغضب والتعصب، حتى في مدينة التسامح على شاطئ الأبيض المتوسط. * كاتب مصري