لم تكن مبادرة كمبادرة مركز الحوار الوطني حول «القبلية والمناطقية والتصنيفات الفكرية وأثرها على الوحدة الوطنية» لتثير لدي كثير اهتمام من قبل، ربما لأنني من سكان جدة ذات الخليط المميز من الأعراق كافة والأجناس، وحيث مشكلة الطائفية لا تبرز كسبب للاختلاف عادة، لكن زيارة أخيرة قمت بها على إثر دعوة كريمة من سيدات لجنة التواصل الوطني ب«الشرقية» أثارت لدي أكثر من علامة استفهام، مبادرة تواصل تهدف إلى دعم التعارف المباشر بين أبناء المناطق المختلفة في بلادنا، وهي مبادرة بدأت من ناشطات القطيف حتى تزول الصورة النمطية الخاطئة عن هذه المنطقة لدى جميع أبناء الوطن وبناته، هي مبادرة مختلفة لأنها فرصة فريدة لنلتقي كشعب واحد بعيداً من حواجز المذهبية والمناطقية والمنصب والطبقة الاجتماعية. طفت مع سيدات من سائر مدن المملكة في مدن القطيف «صفوى وسيهات وتاروت ودارين»، حضرنا شعائر «عاشوراء» وتجولنا في الطرق الموشحة بالسواد والحزن، استمعنا إلى علماء دين ومفكرين ونشطاء ورياديات في العملين الاجتماعي والثقافي، أدركنا وقتها أن من سمع ليس كمن رأى، لمست في بنات وأبناء القطيف خصالاً فريدة لم يكن لي أن أعرفها سوى بلقائي بهم، مجتمع متجانس في وحدته وتاريخه ورسالته، يحمل صوراً متعددة من الريادة الاجتماعية والتكافل الاجتماعي، يرتفع فيه صوت الوعي والتفكير الموضوعي، ويظهر جلياً في منتوجه الثقافي والفكري والأدبي. توقفت هنا عند معنى الانتماء والولاء الذي كثيراً ما يختلط في أذهان البعض، ثقافة الشك في ولاء المختلف في انتمائه المذهبي أو العرقي أو الجنسي حتى تضرب بجذورها في أطياف المجتمع كافة، على رغم عدم ثباتها أو تأكيدها على أرض الواقع، الشيعة ساندوا الحكومة قلباً وقالباً في حرب العراق، ولم يقدموا انتماءهم الديني على ولائهم الرسمي للدولة، شخصيات رفيعة من أصول عربية وغير عربية، من بخارى وجاوة وباكستان والعراق ومصر وغيرها، استقرت هنا في المملكة منذ عقود وأنتجت لنا أفضل الخبرات التي تخدم الوطن في القطاعات كافة بلا استثناء، لم يلغ انتماؤهم العرقي المختلف ولاءهم لهذا الوطن، سيدات منحن فرصاً نادرة للتعليم والعمل في قطاعات ذكورية طاردة وأبدعن تماماً في أداء رسالتهن بكل اقتدار، على رغم التهميش العام لأهمية مشاركتهن في الوطن، بعد زيارة القطيف بمدنها وأهلها كتبت تدوينة في موقعي الخاص على الانترنت أهل القطيف ومجتمعهم الفريد والمختلف، أثنيت على إبداعهم وإصرارهم على وطن واحد، على رغم مشاعر التخوّف والشك التي يتعرضون لها، لم أكن أتوقع أن تحوز التدوينة على ردود أفعال بهذه الكثرة وكأني أثرت جرحاً غائراً أسكنه الصمت والتجاهل وأعادته الكلمات للحياة. تعليقات من سنّة يحذرنني من ممارسات الشيعة ويدعونني لمشاهدة ما خفي علي منها، وتعليقات من الشيعة تهنئني بإنصافي لهم وبمحاولة ردم الهوة التاريخية بينهم وبين الوطن كافة، برز لي وقتها أكثر من أي وقت مضى أهمية مفهوم الانتماء والولاء، وهو كما ذكر المفكر محمد آل محفوظ الولاء الواحد للوطن الذي يجمع تحت لوائه أطيافاً متعددة من الانتماءات المذهبية والمناطقية والعرقية. لن تجتث كلماتي ولا الخطاب الثالث لمركز الحوار الوطني مشاعر الرفض والانقسام التي يتعامل بها عموم الناس مع المختلفين عنهم ولكنها ستحرك بعض العقول للتفكير في مثل تلك المفاهيم، لا نحتاج أن نكون نسخاً متعددة من بعضنا البعض لنثبت ولاءنا للوطن، لا نحتاج لإثبات أن اختلافنا لا يضر غيرنا وأنه لا يشمل عناصر معادية أو مؤذية للغير، وحدها القوانين تكفل ألا يؤذي أي فرد الآخر في مجتمع مدني متطور. في المجتمع الحديث لا يمكن محاكمة الأفكار، تُحاكم فقط الأفعال المثبتة، وفي مجتمعاتنا العربية والإسلامية لم يكن الاختلاف سبباً لرفع راية الشقاق والرفض بل كان دائماً التهميش من فئة ضد فئة هو العامل المشترك في قيام الفرقة والشقاق، هذه القاعدة الكونية في احتواء الاختلاف مثبتة منذ القدم، أسردها «إيسوب» في إيجاز بديع في القرن ال «16»: «متحدين نقف، ومتفرقين نسقط». تضرب في الوقت الذي تخلق الهوية والانتماء الديني مصدراً كبيراً هنا للانتماء وفرقة وحاجزاً من الشك والحذر من الاقتراب، بادر الناشطون في القطيف بإنشاء لجنة التواصل الوطني لرأب هذا الصدع والخلل، المبادرة معنيّة بدعوة شخصيات من أرجاء الوطن كافة لحضور شعائر «عاشوراء» الخاصة والتجول في المنطقة للاطلاع على تاريخها وعلى إبداع أهلها المميز بهذه المناسبة، شملت الدعوات شخصيات من مطارق الوطن وفئاته كافة، في الدعوة والإعلام والتعليم العالي ومعظم مرافق الدولة. الحدث الأهم كان الزيارة الكريمة للأميرة عادلة بنت عبدالله، التي كانت أفضل دلالة على ترسيخ الانتماء والولاء لوطن واحد بلا تمييز، وكان لزيارة الشيخ سلمان العودة ولقاؤه بالشيخ حسن الصفار الأثر الأفضل في درء دعاوى الفرقة لاختلاف المذهب. لن أستطيع أن أؤكد على أهمية وحدة الوطن وتساوي الجميع تحت لواء المواطنة بأفضل من كلمات أبناء القطيف، الشيخ محمد الحبيب، والمفكر محمد آل محفوظ، والدكتور توفيق السيف، الرسالة التي أحب أهل القطيف أن تصل أصداؤها إلى سائر مناطق الوطن عبر شخصياته المختلفة، هي رسالة التعايش السلمي والمزج الواعي بين أطياف الوطن، إنهاء الانكفاء والإقصاء الذي يمارسه أبناء الشيعة بأنفسهم، أو يُمارس ضدهم. تمنى محدثونا إنهاء الرؤية النمطية للشيعة ككيان مختلف يرتبط انتماؤه الديني بولاءات خارجية، تمنوا أن يتم توضيح الفرق بين الولاء والانتماء، أن الشيعة بانتمائهم إلى مذهب مختلف لا يزالون مواطنين تحت لواء واحد مع السنة وأبناء وبنات هذا الوطن كافة، عبر لجنة تواصل ترددت رسالة التسامح والتعايش والاعتراف بالاختلاف، أهمية أن نصنع نسيجاً متماسكاً وإن اختلفت ألوانه وخاماته، نسيجنا السعودي أقوى وأفضل وأكثر صدقاً وانتماءً وولاءً كلما منحناه حقه في الاختلاف والتعبير، كلما مددنا نحن أيضاً أيادينا لتتصل بأياديهم. * كاتبة سعودية. [email protected]