الاثنين 27/12/2010: رأيت - رأيت الأشجار هاربة والهواء الآخر ينغرز في التراب. - رأيت الحروف تطفر من الكتب الى الفضاء ونحن في العهد الشفوي، لا مستند ولا عهود. - رأيت الخائن يرسم الحدود والمتسلل يلقننا الأبجدية. - رأيت آخر الكتّاب مقيماً خلف المحيط يكتب الى لا قارئ. - رأيت أن لا أرى، وأطبقت عينيّ في انتظار سنة جديدة. الثلثاء 28/11/2010: الآشوري غادر العراق الى بيروت أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، معطياً لنفسه اسماً مستعاراً. قال بعدما اطمأن إليّ إنه لا يخاف مثل سائر العراقيين انتقام النظام الحاكم بملاحقتهم وقتلهم في أماكن اللجوء، فلا مشكلة له مع النظام على رغم أنه لم يستسغ ديكتاتورية حوّلت العراق الى كائن مشوّه يصرخ تمجيداً للرئيس. مشكلة صديقي كانت إسرائيل. هكذا، على رغم عدم علاقته بالصراع معها، أثناء ولادتها العسيرة على أرض فلسطين وحروبها المتلاحقة ضد الدول المجاورة. ما يخيف صاحبي هو ذاكرة إسرائيل التاريخية التي تستحضر ذكريات السبي، وأن المتسبب بسبي شعبها الى بابل هو قائد آشوري. فماذا يمنعها من ملاحقة كل منتسب الى هذا القائد وإن بعد آلاف السنين؟ يكرر صاحبي السؤال ويزداد خوفه. لقد كتب على الآشوري الذي يتحمل إرث السبي اليهودي أن يتعرض هو أيضاً الى سبي من نوع خاص. بدأ مع فشل الآشوريين في إنشاء دولة في سياق الدول الحديثة في المنطقة في ظلال الانتدابين البريطاني والفرنسي، واستمرت عوامل السبي في تهميش الآشوريين في دول لم تستطع تطبيق قوانينها الحديثة، إنما حوّرتها لتفرق بين المواطنين بحسب أديانهم أو طوائفهم أو انتمائهم المناطقي أو الحزبي. صديقي الآشوري غادر بيروت حين عاين أن الثورة ليست ثورة قدر ما هي تجمعات عشائر وأحزاب ومندوبي دول، غادر الى باريس ثم الى لندن، ولا يزال يحمل آشوريته التي تعني فخراً دائماً وخوفاً دائماً. ويقرأ صديقي عن مأساة مسيحيي العراق اليوم، أخبارهم كثيرة وغموضها أكثر. من يهدد هؤلاء بالقتل ثم يقتل؟ وماذا يعني نبوخذ نصّر للقتلة حتى ينتقموا من أتباعه المفترضين، مسيحيي العراق؟ الأرجح أن القتلة لم يقرأوا تاريخ العراق، إذ اكتفوا بعلم يقيني يأخذونه من جاهل متيقن. يقرأ صديقي عن المأساة من بعيد تاركاً ألغاز الشرق لأهل الشرق. لقد قرر أن يصير بريطانياً أكثر من سكان بريطانيا الأصليين، وهو يغتسل يومياً ليمحو من جلده ذلك الماضي المستمر الالتباس بين مجرم وضحية. الماضي هناك في الشرق حيث ما تبقى من أهل صديقي، الشرق الذي يحاول حلّ عقدة الماضي فتستحيل أنشوطة تشنق. الأربعاء 29/12/2010: اكتشاف وجيه غالي قبل ايام صدرت طبعة ثالثة من «بيرة في نادي البلياردو»، رواية المصري وجيه غالي، بالإنكليزية، عن الناشر «ساربنت تيل» في لندن مع مقدمة خاصة لديانا ايثيل (تجاوزت التسعين من العمر) التي عاش غالي عندها لفترة وانتحر في بيتها. ويتجدد الاهتمام مع إعادة طبع الرواية وانتشار كتاب خاص عن غالي لديانا ايثيل في عنوان «بعد الجنازة»، وهو أوصل الاهتمام إلى القاهرة فنشرت «دار فكرة» قبل سنة ترجمة هناء نصير للرواية واهتم بها المثقفون، ولحظتها سامية محرز في كتابها «أطلس القاهرة الأدبي» بالإنكليزية الذي ستصدر ترجمته العربية قريباً. لكن الاهتمام تركز على غالي أكثر من روايته، ربما ليساريته ومغادرته مصر الناصرية الى بريطانيا حيث عاش شبه متشرد وكتب روايته الوحيدة وتورط في زيارة الى إسرائيل بعد هزيمة 1967 حيث كتب تحقيقات لصحيفة بريطانية، وعلى رغم أن التحقيقات التي أعيد نشرها، في سياق الاهتمام بغالي، كانت سلبية تجاه الدولة العبرية، فإن ذلك تسبب بإشكالات له كمصري، وما لبث أن انتحر بعد ذلك بفترة وجيزة. رواية وجيه غالي صدرت طبعتها الأولى عام 1964 في منشورات «أندريه دويتش» في لندن، في حين أن رواية «موسم الهجرة الى الشمال» للطيب صالح نشرت للمرة الأولى في عام 1966 في مجلة «حوار» اللبنانية. ولا بد من الافتراض أن الطيب صالح الذي كان يعمل في القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية قرأ رواية وجيه غالي وتأثر بها، خصوصاً لجهة بطلها الشاب العربي (مصري) في المجتمع البريطاني، وربما كان ذلك باعثاً على كتابته «موسم الهجرة الى الشمال». وإذا كانت المقارنة بين رام بطل رواية غالي ومصطفى سعيد بطل رواية الطيب صالح تحتاج بحثاً خاصاً، فإن وضع رواية «بيرة في نادي البلياردو» في متناول القارئ العربي يبدو مفيداً، لجهة تقديم رواية تقوم على الحركة والسخرية والدلالات النفسية والاجتماعية والسياسية في آن واحد. وهي رواية عن مصر إذ تصف انهيار الطبقة الأرستقراطية خلال العهد الناصري، واليسار المصري في موقف الحيرة بين شعارات الثورة ورؤية الحرية يضحّى بها على مذبح شعبوية تضمر استبداداً. وهي رواية غروب الكوسموبوليتية عن المدينة المصرية، إذ نجد بقاياها في أفراد، يساريين غالباً، تجري مصر في دمهم فيما ينطقون بلغات أجنبية. ولا تغيب الشخصية اليهودية عن الرواية، تلك التي نجدها في روايات أجانب ومتمصرين في غير لغة، والبطلة اليهودية التي يقدمها غالي «إدنا» تمثل مأزق الانتماء الذي عمقه إنشاء دولة إسرائيل. يبحثون في مصر عن صورة فوتوغرافية لوجيه غالي، وربما يجدونها في ألبوم الممثل أحمد رمزي الذي زامله في الدراسة. أما الرواية فصدرت الطبعة الثانية لترجمتها عن دار «فكرة»، ويتردد أن دار الشروق ستشتري حق نشرها لتأمين توزيع أوسع نطاقاً في العالم العربي. الخميس 30/12/2010: ظلال الأعمدة العالية وظلالها الطويلة والرؤية مبهجة والأرض فلاة والبحر حتى الأفق، علامات زمن كان. وكنا إذ نبارز العمود تنقضي ظلالنا وتبقى ظلاله. الباني يعترف بزواله ومن يعبث فإنما يلبّي نداء الطبيعة: إن حياة الإنسان لحظة عبور. الجمعة 31/12/2010: استهلاك الزمن منذ أول الكتابة كان التعبير المستمر: الزمن يستهلك البشر، ومثل بحر نحن السمك نحيا فيه ونموت، الزمن الذي يبتلعنا فتبدو الأعمار لحظات عابرة أو صفحات مطوية لا يقرأها أحد، أو أن عالم آثار يعثر عليها فيطويها من جديد: ما نفع سيرة فرد أمام سِيَر عظماء على حجارة وأعمدة. عقد مضى على بداية الألفية الثالثة. كم كتبنا قبل انطلاقتها، وكم شاعت أساطير، خصوصاً في مجال الكومبيوتر، حين تصور كثيرون أن سجل العالم الحديث مهدد بالامحاء في منتصف ليل 31/12/1999. وكان كاتب ومترجم لبناني مقيم في باريس، حدثني حين التقينا في واشنطن عن الكارثة، انطلاقاً من تأويله بعض كتابات جبران خليل جبران. إنه جبراني الهوى والولاء، ينسب الى الكاتب والشاعر والرسام المهجري طاقات خارقة تعادل ما كان ينسب الى الأولياء الصالحين في القرون الوسطى. ها أن العقد الأول من الألفية الثالثة ينقضي والقضايا في شرقنا هي هي، والهموم أيضاً. كنا لعبة الزمن فصار الزمن لعبتنا. لم تبقَ له رهبة وليس كما كان مدعاة للتأمل، حتى ان حياة الناس بين ولادة ووفاة صارت لعبة هي أيضاً، وما ساهم في تشييء الحياة والموت هذا الكم من المنتحرين يخططون لقتل أكبر عدد ممكن من الناس أثناء انتحارهم ولتهديم أكثر عدد ممكن من الممتلكات. ذلك كله من أجل مخطط سياسي ينسبون إليه قداسة، فيما هو سلوك محدود بمصالح الإنسان وبنزعاته العدائية. عشر سنوات على الألفية الثالثة. الأشياء فقدت الكثير من إيحاءاتها. صار شروق الشمس وغروبها مجرد حركة، وصار الفقد مثل أن يصعد رفيقك في القطار الخطأ فتفترقان، والحب مجرد جسدين يشبهان أي جسدين حتى في مشرحة مستشفى... يا إلهي، كم تقلصت الكلمات. هذه الليلة، مثل ليال غيرها، نستهلك الزمن ولا يستهلكنا، لقد أدخلناه في مجالنا المحدود أفراداً ومجموعات، وقيادات تسوق قطيعاً وقد شبه له أنه يسير وراء الحق الى دار الحق.