أُصيب الفلسطينيون بالاحباط من سياسات الادارة الاميركية التي لوحت لهم قبل سنة ونصف السنة فقط بأن نهاية النفق المظلم بالنسبة لمشروع اقامة الدولة الفلسطينية بدأت تتراءى في الافق. فقد وجدوا انفسهم، مرة اخرى، امام واقع يشبه العودة الى مربع الصفر بخصوص المفاوضات بين السلطة الوطنية وحكومة نتانياهو، حيث من الصعب العودة الى المفاوضات المباشرة مع استمرار اسرائيل في ممارسة سياساتها الاستيطانية التي تقضم الاراضي بمنهجية ترمي الى افقاد اعلان قيام الدولة الفلسطينية في أي وقت من الاوقات أيَّ مضمون فعلي. وحيث تظل كل البدائل مرتبطة في جوهرها بإرادات سياسية اقليمية ودولية، ما دامت علاقات القوى بين السلطة الوطنية الفلسطينية واسرائيل على درجة من الاختلال منقطعة النظير لصالح دولة الاحتلال. وفي الواقع، هناك على الاقل خمس حقائق موضوعية على اقل تقدير ينبغي ان تكون حاضرة على الدوام في الاذهان حول موقع وموقف ودور الولاياتالمتحدة الاميركية في الشرق الاوسط عموماً، من خلال الموقف من الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، لأنها حقائق تكتسي اهمية كبرى في بلورة واتخاذ موقف سياسي فاعل لقيامه على رؤية موضوعية للوقائع قادرة على استيعابها في مختلف مستوياتها وأبعادها الفعلية لا المتخيَّلة. الحقيقة الاولى: كون واشنطن الحليف الاستراتيجي الاول لاسرائيل على مختلف المستويات، السياسية والعسكرية، حيث تلعب اسرائيل دوراً حيوياً ومركزياً خاصاً في الاستراتيجية العامة للولايات المتحدة، بما يرقى بها الى مستوى استراتيجية مشتركة بين البلدين، اضافة الى استراتيجيتها التي تنفرد بها في المنطقة وخاصة تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، والتي كانت السبب الجوهري في تعطيل كل الجهود الرامية الى ايجاد حل عادل ودائم ينهي الاحتلال ويحقق تطلعات شعوب المنطقة في الامن والسلام. الحقيقة الثانية: كون اسرائيل تحاول على الدوام العمل والتصرف باعتبارها الجهة الوحيدة المخولة تحديد ورسم وضبط ايقاع اشتغال الاستراتيجية المشتركة مع الولاياتالمتحدة، على اعتبار ان اسرائيل هي المعنية اساساً بنتائجها المباشرة وغير المباشرة، ومن شأن خطأ كبير على هذا المستوى ان ينقلب وبالاً عليها. وهي لذلك مصممة على عدم السماح لأحد بأن يدفع بها الى مثل هذا الواقع، بما في ذلك الولاياتالمتحدة الاميركية. الحقيقة الثالثة: كون الولاياتالمتحدة تدرك تماماً حيوية الدور الاسرائيلي في منطقة الشرق الاوسط، الامر الذي يترجمه حرصها الدائم على عدم دفع اسرائيل الى زاوية ضيقة خاصة تجاه الفلسطينيين، الذين لا يشكلون وزناً حقيقياً في مختلف المعادلات السياسية والعسكرية الراهنة. وقد جاءت المعضلات السياسية والاستراتيجية التي يطرحها البرنامج النووي الايراني لتضاعف من رصيد اسرائيل لدى صانع القرار الاستراتيجي الاميركي، الذي ينظر بعين الريبة الى هذا البرنامج. الحقيقة الرابعة: محاولة الولاياتالمتحدة الأميركية ربط الموضوع الفلسطيني بالوضع العربي العام كلما تعلق الامر بضرورة ممارسة الضغط على الجانب الفلسطيني من أجل التخلي عن هذا الموقف او ذاك او تقديم تنازلات اضافية يعتبرها الاميركيون من منظور تحالفهم الاستراتيجي مع اسرائيل حيوية لتحريك المفاوضات او التوصل الى تفاهمات غالباً ما تكون مؤقتة وقد تنقلب عليها اسرائيل في اول فرصة ممكنة دون رادع. وبموازاة هذا الربط، فإنها تحرص اشد ما يكون الحرص على الفصل بين الملف الفلسطيني والملفات الاخرى في علاقاتها مع مختلف الدول العربية، لان من شأن هذا الربط ان ينتج اوضاعاً سياسية وتفاوضية غير ملائمة بالنسبة لواشنطن، الحريصة على مقاربة الملف الفلسطيني الاسرائيلي من زاوية ضيقة حتى لا تجد نفسها مضطرة الى تحويل مصالحها العامة مع الدول العربية الى عنصر من عناصرتحديد موقفها من هذا الصراع. الحقيقة الخامسة: كون السياسات العربية غير موحدة تجاه الوضع الفلسطيني، والتفاوت الحاصل في الشعور بضرورة الربط بين مصالحها الوطنية ومصلحة الشعب الفلسطيني، وبالتالي، استحالة الحديث عن سياسات عربية تجاه هذه القضية رغم الاعتراض الذي يمكن ان يصدر عن البعض، على اساس ان هناك موقفاً عاماً لجامعة الدول العربية يمكن اعتباره الدليل على وجود مثل هذا السياسة العربية. غير ان جامعة الدول العربية لا تملك في حد ذاتها مصالح مادية وسياسية وعسكرية مؤثرة اقليمياً او دولياً يمكن اخذها بعين الاعتبار في تحديد سياسات الدول الكبرى، وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة، التي تدرك ان اي تعارض بين سياسات دولة بعينها مع الخط العام للجامعة يرجح الخروج عن هذا الخط. وبالتالي، فإن المواقف التفاوضية تحدَّد وفقاً لمصالح الدول القائمة كل منها على حدة، وليس على أساس المواقف المعلنة لجامعة الدول العربية. إن هذه الحقائق ينبغي ان تدفع اساساً الى اعتماد نوع خاص من التواضع في النظر الى الدور المطلوب او المتوقع من الولاياتالمتحدة وبالتالي عدم انتظار المعجزات الذي يؤدي الى حصاد الاحباط تلو الاحباط. إن الوسيط النزيه هو الذي تكون مصلحته مع الطرفين متوازنة، بحيث يؤدي الانحياز الى طرف دون الآخر الى هدر هذه المصلحة وضياع مكتسباتها الممكنة نظرياً لو ظل التوازن والموضوعية يتحكمان فيها، على اعتبار ان خسارة طرف من المعادلة القائمة التي استدعت تدخل الوسيط النزيه هو خسارة له ايضاً، لان الغبن في المحصلة النهائية لا يؤمن استمرار المكاسب. والحال، أن هذا التوازن غير متوفر في المصلحة التي لدى الولاياتالمتحدة مع الطرفين الاساسيين، كما يمكن لمسه بوضوح في الحقائق سالفة الذكر. وعلى مستوى آخر، فإن ممارسة الضغط على اسرائيل من أجل تعديل موقفها التفاوضي للاقتراب من قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالنزاع الفلسطيني الاسرائيلي أمر ممكن من قبل الولاياتالمتحدة وأوروبا والعرب والفلسطينيين، غير ان هذا الممكن النظري مستحيل الانتاج الايجابي عملياً، لغياب البديل القادر على التحرك وفرض امر واقع لا يتلاءم مع استراتيجية اسرائيل. علاوة على ان رخاوة الضغط الاميركي على اسرائيل مردها كون الاستراتيجية الاميركية ذاتها لا تواجه اي خطر جدي بفقدان شروط تطبيقها في المنطقة العربية، جواباً على انحيازها الى جانب اسرائيل وعدم إنصاف الشعب الفلسطيني. فلو شعرت واشنطن بامكان حدوث ما يهدد استراتيجيتها لانقلبت الامور رأسا على عقب، غير ان أي شيء من هذا بعيد عن دوائر الامكان الآن وفي الزمن المنظور. * كاتب مغربي