«في ليلة السابع والعشرين من حزيران (يونيو) 1787، بين الساعة الحادية عشرة والثانية عشرة، كتبت آخر سطر في آخر صفحة. وكان ذلك في كوخ صيفي في حديقتي. وبعدما وضعت قلمي جانباً، قمت بجولات عدة في الممرات بين اشجار الأكاسيا، وأدركت انني لن أتمكن أبداً من الفصل بين أولى مشاعر سروري لاستعادتي حريتي، وبين توطيدي لشهرتي. بيد ان افتخاري بنفسي سرعان ما تضاءل، وراحت كآبة هادئة تستبد بي، اذ فكرت في انني قد دونت لتوي آخر صفحة من عمل لذيذ وصديق قديم رافقني زمناً، وأدركت انه مهما كان من شأن مصير التاريخ الذي كتبته في المستقبل، يقيناً ان حياة المؤرخ نفسه حياة قصيرة وشديدة الهشاشة». هذه العبارات دوّنها في سيرته الذاتية، بعد سنوات من تلك الليلة، التي يصفها واحد من اكبر المؤرخين الذين عرفتهم انكلترا، وربما العالم كله، خلال حقبة التنوير: ادوارد جيبون. ولئن كان جيبون قد خلّف عند رحيله الكثير من الاعمال التاريخية والعلمية والادبية، لا سيما سيرته الذاتية التي اقتبسنا منها الفقرة السابقة، فإن عمله الاكبر والأهم يبقى ذلك الكتاب الضخم، والواقع في ألوف الصفحات، والذي يصف لنا هنا كيفية انتهائه من تدوينه، يعني به كتاب «انهيار الامبراطورية الرومانية وسقوطها»، هذا الكتاب الذي انجز جيبون صفحاته الاخيرة في لوزان في سويسرا، حيث اضطر الى اللجوء هرباً من الحرب الضروس التي شنت ضده في لندن بسبب الكتاب نفسه، وأفقدته وظيفته ومقعده في البرلمان. ذلك ان الكتاب، كما سنرى، لا يكتفي بأن يتحدث عن الموضوع الذي يوحي به عنوانه، بل انه في الاصل يطاول ثلاثة عشر قرناً من تاريخ البشرية، هي تحديداً القرون التي انتقلت بهذا التاريخ من العصور القديمة الى العصور الحديثة. ومعنى هذا انه يطاول ايضاً ظهور المسيحية وانتشارها، معتبراً إياها واحداً من الاسباب الرئيسة التي تكمن خلف سقوط الامبراطورية الرومانية، ولنا ان نتخيل ان موقف جيبون من المسيحية هو الذي كان وبقي دائماً من مبجلي الامبراطورية الرومانية في حقيقتها الوثنية القديمة. لقد نتج من موقف سلبي من انتشار المسيحية في الغرب، عالجه جيبون بطريقة لئيمة ومتهكمة جعلته عرضة للهجوم العنيف. غير ان الرجل بدلاً من ان يذعن ويبدل افكاره، بارح لندن ليكتب بحرية في لوزان، ولا ننسى هنا ان سويسرا كانت في ذلك الحين، معقل الفكر التنويري الذي حمله مفكرون أسسوا للثورة الفرنسية مثل فولتير وروسو. والحال ان جيبون ينتمي فكرياً الى هذين الاخيرين، كما كان وقع في بريطانيا باكراً تحت تأثير هيوم ونزعته الانسانية. ولقد ترك ذلك كله اثراً في كتابه الضخم، الذي بدأ نشر اجزائه تباعاً منذ العام 1776، ولا يزال يعتبر حتى اليوم معلماً من معالم علم التاريخ، ومكانته في الآداب الغربية كمكانة ابن خلدون في الآداب العربية، علما ان جيبون لم يعرف كتابات ابن خلدون للأسف (ولنا ان نتصور كم كان يمكن للقاء بين فكر الرجلين ان يكون)، لذلك استعان بما كان مترجماً من النصوص العربية، لا سيما بأعمال الشريف الادريسي وأبي الفداء، في الفصول الثرية، وانما التي يمكن ان تجادل، التي كتبها عن ظهور الاسلام والحضارة العربية، وتشكل جزءاً أساسياً من تاريخه. واذا كنا نعرف، بحسب رواية جيبون نفسه، كيف انجز وضع كتابه، بعد سنوات عدة من بدئه فيه، فإننا نعرف ايضاً كيف ولدت فكرته لديه، ففي العام 1764، وكان جيبون توجه الى ايطاليا وهو في السابعة والعشرين من عمره لدراسة آثارها، أمسك بأوراقه يوم 16 تشرين الاول (اكتوبر) من ذلك العام، وراح يخط عليها، تحت وقع تأثره بعظمة تلك الحضارة، مخطط المشروع، وقد قرر ان يكتب تاريخ الحضارة الرومانية. ويفيدنا جيبون في «سيرته الذاتية» بأنه، في ذلك اليوم في روما، ما كان ليخطر في باله ان ما سيكتبه انما هو تاريخ حضارة العالم خلال 13 قرناً، على رغم إدراكه ان روما وامبراطوريتها كانا خلال تلك القرون مركز العالم. في نهاية الأمر، وبعد 23 سنة من ذلك اليوم في روما، انجز جيبون تاريخه الذي اكتمل في الاجزاء الستة التي نعرفها اليوم، ليدرس المرحلة التي تمتد من العام 180 ب. م. حتى السقوط النهائي للامبراطورية البيزنطية، لا سيما مع احتلال العثمانيين القسطنطينية، ما يعني انه يتناول القرون الثلاثة عشر الاكثر اهمية في تاريخ البشرية. ولقد قسم الكتاب، في أجزائه الستة الى قسمين، يتوقف اولهما عند العام 641، ويتابع الثاني حتى خسارة المسيحية لعاصمة بيزنطية. ويرى الباحثون عادة ان القسم الاول هو الاكثر أهمية، والذي يبدو ان جيبون وضع فيه القسط الاكبر من جهوده ومعارفه وقدرته على التحليل. أما القسم الثاني، فإنه أتى - ودائماً بحسب اولئك الباحثين - أقل أهمية وأكثر اختصاراً، حيث ان الكثير من فصوله يبدو وكأنه ألصق لصقاً بالفصول الاخرى، ومع هذا لا يفوت الباحثين ان يروا، حتى في هذا القسم الثاني، قدراً هائلاً من المعلومات التي يمكن الوثوق بمعظمها والاستناد اليها. ولعل أهم ما في كتاب جيبون، في قسميه معاً، هو ان المؤلف لم يكتف كما كان يفعل المؤرخون الذين سبقوه بدراسة الاحداث السياسية الكبيرة التي عرفتها وعاشتها الامبراطورية في مرحلتيها: الرومانية والبيزنطية، بل انه أسهب، خصوصاً، في دراسة تواريخ وأحوال الشعوب التي عاشت من حول الامبراطورية وفي تماس وتفاعل معها، من دون ان ينسى في خضم ذلك الحركات الروحية والدينية والاجتماعية، التي رأى جيبون أهميتها. من هنا مثلاً نراه، حين يدرس الاسلام وتاريخه، باعتبار أن توسع امبراطوريته كان فيه القضاء الاول على الامبراطورية الرومانية، يدرس تاريخه الروحي والفكري وحركته الثقافية وتنقلات الشعوب، ولا سيما الانشقاقات الدينية والمذهبية المرافقة لذلك كله. واذ يشتغل جيبون على هذا، نراه متدخلاً في التفسير في شكل جدي، بالاستناد الى حسه النقدي الرهيف وبالاستناد الى ملكة ادبية حقيقية جعلت الاشخاص، كما الشعوب، تتخذ تحت يراعه سمات حقيقية، وتبدو على صفحات الكتاب من لحم ودم. وفي هذا الاطار توقف الباحثون طويلاً عند البورتريهات التي رسمها جيبون لأشخاص مثل ماركوس اوريليوس وجوستنيانوس، كما توقفوا عند الفصول الثرية التي تحدث فيها عن التشريع الروماني، وعن ولادة الاسلام وعن الحملات الصليبية... إلخ. ولد إدوارد جيبون في بوتني في انكلترا، في العام 1727 لأسرة موسرة، لكنه اتى طفلاً مريضاً هشاً، ما جعل دراسته غير منتظمة، وهو تحدث عن هذا لاحقاً في سيرته الذاتية، وقدم وصفاً مريراً للحياة الدراسية التي امضاها، خصوصاً في اكسفورد. وهو كان في السادسة عشرة حين اعتنق الكاثوليكية تحت تأثير قراءته، وأرسله ابوه الى لوزان في سويسرا، حيث عاد الى البروتستانتية. وبعد غياب 5 سنوات هناك، وعلاقة غير مثمرة بسوزان كورشو (والدة مدام دي ستايل لاحقاً) عاد الى انكلترا. وفي العام 1761 نشر بالفرنسية واحداً من اوائل كتبه «محاولة في دراسة الأدب». وبعد تنقل من جديد بين انكلترا وإيطاليا، عاد العام 1772 بعد موت ابيه ليبدأ في صوغ كتابه التاريخي الكبير الذي نشر جزأه الاول في العام 1776، فكان له استقبال كبير قبل ان يبدأ الهجوم عليه بسبب موقفه السلبي من انتشار المسيحية على حساب عقلانية الرومان. وهو هجوم رد عليه الرجل بكتاب عنيف اصدره العام 1779. ثم راح يصدر الاجزاء التالية من «انهيار الامبراطورية الرومانية وسقوطها» ما شدد من الهجوم عليه ودفعه الى الارتحال الى لوزان حيث انجز الكتاب كما رأينا. وبعد نشر الكتاب كله في العام 1788، عاد الى انكلترا، حيث شرع يكتب مذكراته، معلناً سروره لكونه ولد وعاش في بلد يراعي حرية الفكر. ولقد رحل جيبون في العام 1794 مكللاً بالمجد كواحد من مفكري التنوير الكبار في إنكلترا وأوروبا. [email protected]