وكأن أحدهم أشعل ثقاباً في محطة وقود! لم تترك النيران مجالاً إلا واشتعلت فيه: خيوط العنكبوت، أثير الفضائيات، دهاليز المؤسسات الرسمية، وجلسات المقاهي الشعبية وكذلك التجمعات الأرستقراطية. فجأة ومن دون مقدمات، لم يعد الحديث الدائر متمركزاً حول اشتعال أسعار السلع في رمضان، أو إقرار العلاوة الخاصة الجديدة، أو خناقات رئيس نادي الزمالك السيد مرتضى منصور، بل يتحدث الجميع عن سالم عبدالجليل وعقيدة الآخرين وضرورة تفجير الخطاب أو تركه يذهب إلى حال سبيله. السبيل الوحيد الذي وجده الشيخ الأزهري المنبت الأوقافي (وزارة الأوقاف) العمل (سابقاً) سالم عبدالجليل، ليبقى على قيد الإعلام محتفظاً بهواء الاستمرار محافظاً على نعمة الفضائيات وهبة الشهرة وحلاوة «العمل الدعوي»، إن لم يكن أعلى منبر هنا فعلى مقعد برنامج هناك أو استضافة بغرض الاستزادة الدينية هنا وهناك، كان فضيلة الاعتذار. النعتان المميتان الماحقان الملغومان اللذان أطلقهما في برنامج فضائي واصفاً عقيدة المسيحيين واليهود ب «الفاسدة والضالة» في برنامج «المسلمون يتساءلون» على قناة «المحور» الخاصة، لم يخفف من وطأتهما توضيحه بأنهم (أي المسيحيين واليهود) على رغم فساد العقيدة وضلالها، إلا أنهم «طيبين وبشر وهنعاملكم كويس». فقد استعرت النيران على أثير «فايسبوك» و «تويتر»، وانتقلت منهما إلى الدوائر الاجتماعية واستقرت على المكاتب الرسمية. وعلى رغم صدور بيان اعتذار «عن جرح المشاعر» مع تأكيد «أن الحكم الشرعي بفساد عقيدة غير المسلمين (في تصورنا) - كما أن عقيدتنا فاسدة في (تصورهم) - لا يعني استحلال الدم أو العِرض أو المال»، إلا أن نيران الجدل وحمم السجال ولهيب النقاش كان قد استعر. استعار بعضهم مقتطفات مما يردده مشايخ متطرفون، فيما لجأ بعض آخر إلى مقتطعات من كلمات تدعو إلى الفتنة وجمل قوامها الكراهية يقولها قساوسة مغالون. هكذا جاء رد الفعل من قبل هواة الصيد في المياه العكرة وضحايا خطاب ديني تُرِك حابله على نابله طيلة عقود مضت. وفجأة تقلّص اسم سبب الأزمة ومنبعها، وتحوّل المشهد الكريه إلى حلبة عنكبوتية للصراع بين هؤلاء وأولئك، لولا غلبة صوت العقلاء وترجيح كفة الحكماء. دعوات عدة انطلقت من الجانبين للتوقف الفوري عن هراء تكفير الآخر وهذاء دق إسفين الفتنة، وهو ما لاقى آذاناً صاغية وقلوباً قانعة من كثيرين. إلا أن هذا لم يمنع من أن يتصدر هاشتاغ «سالم عبدالجليل» قائمة «تويتر»، ومعه هاشتاغ «على المسيحيين» أن يفعلوا كذا وكذا لمجابهة ما يتعرضون له من تكفير تارة وازدراء تارة أخرى. وعلى صعيد الازدراء، وعلى رغم أنه جرت العادة أن تقتصر قضايا ازدراء الأديان على دين واحد لا ثاني له، ألا وهو الدين الإسلامي، إلا أن المحامي والناشط القبطي نجيب جبرائيل أقام ضد عبدالجليل قضية جنحة مباشرة، مطالباً بضرورة محاكمته بتهمة ازدراء الأديان، وتهديد الوحدة الوطنية، وتقويض السلام الاجتماعي، والتحريض على قتل المسيحيين ومناهضة الدولة المصرية. الدولة المصرية التي تجد نفسها بين الحين والآخر واقعة في «حيص بيص» جراء تصريح أهوج أو رأي أرعن أو موقف أخرق بُح صوت رأسها من الدعوة إلى تجديد الخطاب. لكن الأيام تثبت أن ما يقوم به البعض من تجديد هو أقرب ما يكون إلى التخريب، وأن اجتهادات البعض الآخر تؤدي بهم إلى سجون واغتيالات نفسية وتجريحات معنوية. ولأن الجمود تمكّن من المشهد، ولأن التجديد والتحديث والتغيير تعاني جموداً وتحجراً وتصلباً منذ عقود، فإن المخاوف كثيرة والألغام عديدة. ويكفي أن الشيخ سلام عبدالجليل تحوّل من شيخ محبوب بين الوسطيين والمتنورين إلى شيخ مرغوب بين المتشددين والمغالين بعد تصريح «فساد العقيدة». عقيدة فريق آخر لا ترى إلا المؤامرة والإلهاء والتغييب. ومن ثم، فقد تفرغ هؤلاء لقدح زناد الفكر وسن حد سكاكين التحليل والتنظير حيث تصريح عبدالجليل الغرض منه التعتيم على «اختفاء» حبيب العادلي وزير داخلية الرئيس السابق حسني مبارك قبل تنفيذ حكم بالسجن صدر في حقه، أو كسر البامية حاجز ال40 جنيهاً مصرياً. المثير أن كل المؤسسات الدينية سارع إلى إبراء ذمته وإخلاء مسؤوليته عن عبدالجليل. فمعهد البحوث الإسلامية قال إن الأزهر لا يملك تكفير الناس وإن ما قاله عبدالجليل رأي شخصي. وزير الأوقاف الدكتور محمد مختار جمعة أكد أن عبدالجليل ليست له علاقة من قريب أو بعيد بالوزارة، بل تم إنهاء عمل إمام مسجد السيدة نفيسة الشيخ عبدالله رشدي وإحالته للتحقيق لأنه ناصر عبدالجليل في موقفه. ولم يخل الأمر من دعابة وحس فكاهة. فمنهم من قال إن عبدالجليل سيقدم برنامجاً رمضانياً اسمه «المكفراتي» (على وزن المسحراتي)، ومنهم من بدأ يكتب خواطر عنوانها «في داخل كل منا داعشي صغير»، ومنهم من دعا الجمع الحاشد إلى استراحة قصيرة من الهري الدائر والتقاط الأنفاس استعداداً لأسبوع جديد وهري جديد.