العام الفضائي ليس كغيره من الأعوام. فهو عام مضغوط محمّل بكم هائل من الأحداث والحوادث، والتغييرات والمتغيرات، والمصائب والأهوال، وربما قليل من الأفراح والانتصارات. لذا، فإن ما تنجزه الفضائيات في عام يبدو بالعين المجردة كأنه إنجاز العقود والدهور وليس الأسابيع والأشهر. أشهر قليلة من المتابعات التلفزيونية للنشاطات والتوسعات الداعشية، أدت إلى اعتياد ملايين المشاهدين على «داعش» والدواعش. لم تعد نشرة الأخبار نشرة يعتد بها من دون أن تتضمن بعض الأخبار عما فعله التنظيم. قد يكون ذلك معضداً بتقرير مصوّر حيث الذبح والقتل وما تيسّر من سفك دماء. وقد يكون مذيلاً بإحصاء رقمي عن عدد المغدورين ونسبة المهجرين. لكن النتيجة تبقى واضحة لا لبس فيها. فما كان يثير القشعريرة والرعب ويجعل المشاهد يشعر كأن نهاية العالم غداً، بات يمر مرور الكرام كأن شيئاً لم يكن، باستثناء تلك الأيام التي يزيد فيها عدد المذبوحين زيادة مريبة، أو تفتح فيها تركيا الأبواب أمام الهاربين فتسيطر مشاهد اللاجئين على الحدود الأوروبية سيطرة كاملة، أو تحدث عملية إرهابية في إحدى المدن الأوروبية. هذا الإيقاع الفضائي الذي أدخل المشاهدين العرب في نفق المعاصرة التلفزيونية، ليس وحده المميز لسمات العصر الواضحة وضوح الشمس عبر الشاشات. فإضافة إلى التعامل مع الإرهاب والإرهابيين والضحايا والجلادين باعتبارهم واقعاً لا بد منه، لم تعد أسئلة من أطلق الوحش المفترس، ومن صنع الأسطورة المرعبة، ومن حوّل الكابوس إلى واقع، تشغل بال المشاهد، فقد تحوّل الجميع في زمن المعاصرة من محدودية النظر إلى الإنسان وآلامه وأحلامه وكوارثه وكوابيسه، إلى الاكتفاء بمتابعة كارثة الأمة متابعة من على بعد شأنهم شأن المشاهدين في بقية أرجاء الكوكب. الكوكب الفضائي في زمن الأصالة كان يتعامل مع المادة التلفزيونية من منطلق كلاسيكي غارق في الجمود والتحجر. فحين كان برنامج يتجرأ ويقدم فقرة تشوبها شبهة الدجل أو تحوم حولها تهمة الشعوذة، كانت برامج أخرى تسارع إلى صبّ اللعنات على الدجالين والتحذير من مغبة المشعوذين، ناهيك عن الأقلام الصحافية المنددة بهذا السفه والمطالبة بمعاقبة المسؤول عن هذا البث. لكن في زمن المعاصرة وفي العام ال16 من الألفية الثالثة، يدفع المعلنون من الدجالين والمشعوذين مبالغ مالية للقنوات التي دخلت بكل ما أوتيت من قوة وبأس عصر تقنية المعلومات والتكنولوجيات، فإذ بها تفتح أبواب بثّها ونوافذ أثيرها لإعلانات تحمل صوراً مركبة لشياطين، ونماذج مقلّدة لأشباح وأرواح شريرة، ورسوماً مفبركة لنيران تشتعل في أجساد الصالحين والصالحات. ثم فجأة، تأتي الشيخة الجليلة فلانة لتعلن عن قدراتها الروحانية وملكاتها النورانية لفك الأسحار ومنع الأعمال ووأد الشرور والموبقات. فقط اتصل على «رقم هاتف محلي» وللاتصالات من جميع أنحاء العالم «رقم دولي». ويذيل الإعلان على القناة - التي تبث تحليلات علمية لبزوغ الجماعات الإرهابية وتفسيرات اجتماعية لانتشار الدوافع الدينية المتشددة قبل إعلان شيخة فك الأسحار وبعده – بتحذير مهم للسادة المشاهدين بعدم الانصياع لإعلانات شبيهة لدجالين ودجالات ونصابين ونصابات يدعون القدرة على فك الأسحار. ومن ذلك إلى آخر على قناة شبيهة تخصّص جل وقتها وكل جهدها لبث البرامج الحوارية والفقرات الثقافية، علّها تأخذ بيد الأمة العربية إلى بر النجاة من مجريات داعشية أقرب ما تكون إلى عصور ظلامية تخلصت منها أوروبا في العصور الوسطى قبل قرون. القناة التنويرية تكتفي بإعلانات منزوعة الصور الكارثية والرسوم المأسوية للجان والأرواح الشريرة. الإعلان الذي يبث على خلفية تلاوة من آيات الذكر الحكيم، يحدّد أرقاماً هاتفية لكل من التخصصات التالية: جلب الحبيب، تسريع النصيب وزواج العوانس، علاج المس وإخراج الجان، زواج الفتاة المسحورة، سحر أحمر، سحر أبيض، سحر أسود. لكن ليس هناك ما هو أسود من المقارنة بين زمن القدم المغرق في الجمود والتحجر وقت كان حادث مقتل شخص، أو جنوح أشخاص إلى تطرف أو تشدد، أو دعوة جماعة إلى الانغلاق والتكفير ورفض الآخر، كفيلة بأن تصنع خبراً يثير الفزع ويحرك المخاوف من مثل تلك الأعمال الشاطحة المرفوضة، ناهيك عن اعتبار الدجل وأعمال الشعوذة من المظاهر المتصلة بالجهلاء والمتخلفين، وبين زمن الحداثة المغرق في الفضائيات والتقنيات الحديثة. وفي هذه المعاصرة والحداثة، أصبح مقتل عشرات أو حتى مئة لا يرقى إلى مكانة الخبر الرئيسي، حيث الحد الأدنى للقتلى بضع مئات، وأخبار الجماعات المعتنقة العنف ديناً والذبح عقيدة ورفض الآخر بديهية، أصبح ذلك أموراً عادية وفقرات معتادة، ومثلها أمور الدجل وملفات الشعوذة والضحك على المشاهدين بإعلانات المشعوذين. الفضائيات العربية باتت تفتقد أصالة عداد القتل بلا قطع رقاب والدجل بعقاب، كما أضحت معرية لشؤون العرب وأمورهم، معبرة عما لحق بهم على أيديهم وأيدي من حولهم. كانوا يشكون قبل سنوات من غزو أغاني الفيديو كليب «غير المناسبة لثقافتنا المحافظة وعاداتنا المهذبة»، وسطوة الأفلام التافهة «حيث تاريخنا الأدبي المشرق ومسيرتنا الثقافية المشرفة»، والبرامج والقنوات الدينية التي تميل إلى المغالاة حيناً والتشدد أحياناً، «حيث عقيدتنا السمحة وسطية وإيماننا الفطري لطيف خفيف». لكن الأمر لم يستغرق كثيراً، حتى تفجرت الأصالة وتبخرت في هواء المعاصرة حيث نشرات الأخبار عبارة عن عداد منزوع الإحساس لأعداد المقتولين والمذبوحين، وبرامج الحوارات تصول وتجول لشرح القتل علمياً تارة وزعم تفسيره دينياً تارة أخرى، وبينها فقرات إعلانية يشوبها الكثير من الدجل والشعوذة وفك السحر وجلب الحبيب في زمن فضائي معاصر عز فيه العقل وشحّ فيه المنطق.