تضاء الخشبة فيما الأطفال يلعبون. فجأة يُسمع صوت القصف المترافق مع صور الآلة العسكرية الإسرائيلية في عمق المسرح، يتبعثر الأولاد ويرمون ألعابهم وينبطحون أرضاً... هكذا تبدأ مسرحية «غزة بعيون أطفالها» التي قدمتها المخرجة رنا بركات على خشبة مسرح» الحمراء» في دمشق، لعرض معاناة أطفال غزة جراء العدوان الإسرائيلي، من خلال 10 مونولوغات شكّل كل واحد منها عرضاً لقصة طفل عاش الحرب الأخيرة، وخرج منها «سالماً» بعد كل ما تركته فيه من آثار دمار نفسي صعب الزوال. يكتسب العمل خصوصيته، لأنه كتب من قبل أطفال عاشوا الحرب، وهو نتيجة ورشة عمل أقامتها الفنانة المسرحية الفلسطينية إيمان عون في رام الله، مع 33 طفلاً عاشوا حالة الحرب والحصار. بعدها انطلقت بالعمل الذي حمل اسم «مونولوغات غزة» لتعرضه في مبنى الأممالمتحدة بكل لغات العالم، ومن خلال أطفالٍ تم انتقاؤهم من 51 دولة، أدّوا المونولوغات المكتوبة تضامناً مع أطفال غزة، وكمساهمة مسرحية في رفع الحصار المفروض عليهم. النسخة السورية من العمل، قدّمت عرضاً امتاز بتأثر الأطفال البالغ بأدوارهم، في حين شرّع النص أبواباً أخرى للتفكير في الحرب، وفي ما تركته لدى كل واحدٍ منهم، كجرح في الذاكرة. القاسم المشترك بين المونولوغات هو تأكيّد الأطفال على الاختلاف بين مرحلتين: قبل الحرب وبعدها. وكأن التاريخ مصاب بحالة من الانقسام بين لحظتين هما قبل وبعد، وبينهما لا شيء إلا الحرب. فكل شيء يُحاكم من زاوية قبل وبعد. يعترف أحمد في مونولوغه أن لديه الكثير من العُقد بعد الحرب، وأن الحرب جعلته يعرف أنها قادرة على تغيير البشر وطبائعهم ، حيث يغدو الخلاص مطلباً جماعياً، بينما ترفض نصوص أخرى موت أصدقاء كاتبيها الصغار، وتحاول عدم الاعتراف بحقيقة الموت، لأن الميت:» أعز صديق لديّ»، بحسب تعبيره. تنعكس حالة الحصار الدائم،على نصوص بعضهم ليعترف بأنه أصبح دائم الحرص؛ لا يأكل رغيفاً ويكمله، ولا يصرف مصروفه إنما يحتفظ به لحرب قادمة. فهو لم يتخيل اليوم الذي لا يجد فيه ما يأكله داخل منزله، أو يتقاسم مياه الشرب بينه وبين إخوته قبل نفادها بالكامل. تغرق نصوص الأطفال المكتوبة في لحظات صدق، بالأحلام المطالبة بانتهاء الانقسام. في حين تذهب روند في مونولوغها لتطالب بحلمها أن تصبح ممثلة. لكن أين ستمثل؟ بعدما دخل المسرح والسينما إلى قائمة الممنوعات. تجتمع كل أحلام الأطفال في النهاية، عند حلم ياسمين من خلال رسالةٍ تتركها ويقرأها أحد الأطفال. تؤكد فيها أنها تخلت عن كل الأحلام، ولم يبق لها إلا حلم واحد، وهو: «أن تموت شقفة واحدة», أي أن تموت بشكل طبيعي، ولا يتطاير جسدها شظايا جراء قذيفةٍ أو صاروخ. هنا يصرخ قارئ الرسالة أحمد بلهجته الغزاوية: «كل أهل غزة صار حلمهم أن يموتوا شقفة وحدة». يذهب النص نحو تقديم مرارة حلم الإنسان بموت هادئ، لا لشيء، إلا لأنه فقد قيمة الحلم بالحياة... يعاود الأطفال اجتماعهم في مشهد النهاية، وهم ينشدون أغنيةً من التراث الفلسطيني، ويحملون الشموع بأيديهم، في مشهدٍ كان أقل تأثيراً مما قدمته المسرحية على لسان أطفالها من صدق في الإحساس، تجاه تجربةٍ عاشوها بأدّق تفاصيلها التي لم تنعكس إلا عليهم. استطاع الأطفال الذين أدّوا المونولوجات في النسخة السورية، التماهي مع النص الذي قدموه بصدق، وبأداء مسرحي عالي، ظهر من خلال اهتمامهم بتفاصيل وحركات وجوههم وأجسادهم أثناء العرض. فمحاولات الأطفال لإقناع الجمهور بحقيقة ما قدموه على الخشبة، كانت صعبة، في عمل ينتج من قبل الصغار ليتلقاه الكبار. النص الذي قدّم تفاصيل تجربة شخصيّة عاشها أطفال غزة أثناء الحرب، استطاع أن يشغل الجميع عن سواه من عناصر العرض، فالسينوغرافيا التي اعتمدتها المخرجة كانت بسيطة ومباشرة، لكنها حاولت إدخال الجمهور في جو العرض حتى قبل العرض، إذ أحاطت الصفيّن الأيمن والأيسر من كراسي مسرح الحمراء بشريط مكتوب عليه عبارات مثل: «غزة ممنوع الاقتراب»، و»غزة ممنوع الكلام»، و»غزة ممنوع التضامن».