كان التجديد في التجربة الشعرية العربية في القرن الماضي يتكئ على كيفية الخروج من تقليدية الشكل العمودي، الذي عُرف به الشعر منذ الجاهلية العربية، والتمرد على العروض الخليلية، عبر قصيدة التفعيلة ثم الانتقال إلى كتابة ما بات يعرف اليوم بقصيدة النثر. ومنذ ذلك الوقت انصرف العديد من الشعراء عن القصيدة العمودية، وتحولوا من كتابة البيت الشعري إلى كتابة السطر الشعري عبر الشكلين الجديدين، إلاَّ أن الحركة الشعرية اليوم لم تعد تطيل النظر في مسألة الشكل، وتَعَدّىَ النقاد ذلك إلى محتوى القصيدة وبنيتها الإيقاعية، وما تقدمه من رؤى وأفكار حداثية مغايرة، بعيداً عن الشكل الذي كُتبَ عليه الشعر. والمتابع لتجربة الشاعرة السعودية الدكتورة أشجان هندي منذ «مطر بنكهة الليمون» 1996، و«للحلم رائحة المطر» 2007، وصولاً إلى ديوانها الشعري الجديد «ريق الغيمات» الصادر عن المركز الثقافي العربي، بالاشتراك مع نادي الرياض الأدبي 2010، والذي ضم قرابة 53 نصاً سيكتشف الموهبة الشعرية الكبيرة التي تمتلكها هندي في كتابة الأشكال الشعرية بوعي حداثي يغلّف قصائدها، ويقدم عالماً شعرياً مليئاً بالمفاجآت والمتضادات، على رغم اعترافها في أحد حواراتها التلفزيونية بأن عرَّابها هو «التراث العربي»، ومنه انفرجت موهبتها ونما حِسها الشعري على يد شعراء العربية الكبار كالمتنبي والبحتري وسواهما، فالتي كانت تقول: هلا طلل راقصته الحتوف/ وصفق في جانبيه الملا/ على الطعن حين تموج السيوف/ نسائل عبلاك أن تقبلا/ ونذكرها شفة لا تمتّع/ في وردها قبلنا ناهلا/ وفاكهة مشتهاة وجيدا/ من العاج ان ماج ما أجملا». هي أيضاً الشاعرة نفسها التي تقول في مجموعتها الجديدة: «أختار أن أتكسر في مشيتي بكعب يغني على وقع (سيناترا) و(القصبجي)، أختارُ أن أطرب المنصتين للحن القدم، مدمنو رنَّة الاه بين الخلاخيل هم فئة لستُ اختارها حين أنوي الخروج عن النص لكنها فئة غالبة». كما أن الكتابة الشعرية المعاصرة انحازت إلى اليومي المعاش وهموم الذات ومعاناتها، واستثمر ذلك العديد من الشعراء، مبتعدين عن أغراض الشعر السالف، الذي نشأت عليه ذائقة أجيال كثيرة، وتعاطيه مع إيقاع الحركة الكونية السريعة، وهذا ما يلمسه القراء في نصوص أشجان الحديثة «رائحة المكان وهُمْ وأنت وأنا وأحلامنا ذكريات تنزلق على جسد صباحي كرغوة صابون تكنس أوساخ جسد لم يعرف الغسل مذ غادره عنب آخر الأعياد». وبالنظر إلى مفردات الشاعرة ومعجمها اللغوي، سنجد أن ذكاءها الشعري فرض عليها استقدام لغة توازي في رشاقتها موضوع الفكرة التي تريد معالجتها من خلال الشعر، فنقرأ في نص «ثوب البرتقالة» مثلاً: «لماذا خربشت وجه البرتقالة عندما قطفتها؟ البرتقالة كانت ترقص على غصنها عندما أمسكتها بقوة وعصرتها، ثم استقبلت من جلدها ما استدبرت وقشرتها. البرتقالة كانت نزعت ثوبها لتستحم بفضة الغيم لا لغاية في نفسها أو لحاجة إلى عصيرك!». ولا تريد هندي أن يكون قارئها إلاَّ يقظاً متفتّح المدارك، يستطيع التعايش مع نصوصها ورؤاها الشعرية المبتكرة والإبحار مع خيالها الجامح، الذي أسهَم في تكوين صوتها الشعري الخاص والذي ميَّزها عن الكثير في المشهد الشعري المحلي والعربي، ما جعل واحداً من المثقفين العرب وهو الراحل غازي القصيبي يصفها بأنها «أفضل شاعرة عربية».، تقول أشجان في نص يتورط البدوي عشقاً: «يطوي إلى عين الظباء بداوة تبدي الذي تخفيه أسرار الرمال ويسير حاف من صلافته إلى عين احتمال والعين لا تروي البداوة حين تسرف في بداوتها وتشرب مرتين». إن جودة الإيقاع الموسيقي في قصائد هندي، وجَعْلِها الشعر يتراقص أمام عين القارئ، يؤكد مقولة الفرنسي بول فاليري: «الفرق بين الشعر والنثر مثلما هو الفرق بين الرقص والمشي». «عرش الذي أهواه فوق العشب عشبي هواه ورضاه ماء الورد وردي رضاه وهو الذي غطى بالغيوم نخيله وروى وصب سيوفه الاثنين في قلب الهوى... والتمر من روحي/ نى وأنا...».