استكمالاً للمقال السابق الذي تناولتُ فيه رسالة «مرآة التأمل في الأمور» لعائشة التيمورية، كمحاولة رائدة لقراءة النصّ الديني من منظور نِسْويّ، وردّ الشيخ عبدالله الفيومي عليها، أقول أنه تمكن رؤية امتداد لذلك الجدل (عائشة - الفيومي) في الوقت الحاضر، في هذا الجدل القائم بين مثقفات مسلمات يرغبن في تقديم قراءة مختلفة للنص، تنصف النساء من منطلق عدل الشريعة، والشيوخ المحافظين الذين لا يريدون أن يتزحزحوا عما ذكرته كتب التراث، يسبغون عليها ما للنص الديني من قداسة، لتعزيز سلطتهم وأفكارهم المنحازة، التي يريدون أن يجعلوا من الدين سنداً لها وداعماً. والحقّ أن تفسير النصّ الديني لا بد من أن تحكمه ضوابط، ومن أن يكون قائماً على معرفة أدوات معينة وامتلاكها، كي لا يتحول الأمر إلى فوضى، لكنّ محاولة فهم النصوص الدينية والتفاعل معها لإدراك مراد الله ليسا حكراً على فئة معينة، بل هما واجب على المؤمنين المطالبين بإعمال عقولهم، لا سيما عندما يكون «العلماء المختصّون» يخيم عليهم الجمود، وهذا هو ما صنع الإشكالية. وإذا كانت هؤلاء المثقفات غير دارسات العلوم الشرعية بصورة أكاديمية، فلا بد أنهن يحرصن على تحصيل معارف دينية لتوظيفها في عملهن، والأهم أنهن لا يعتبرن أنفسهن فقيهات، بل مفكّرات، ومرادهن «ليس أن يحل المفكّر محل الفقيه ولكن أن يلفت نظره إلى قضايا معينة ويحثه على البحث فيها»، أي تحريك المياه الراكدة. يمكن أن نشير هنا إلى ورقتين بحثيتين ل د. أميمة أبو بكر أستاذة الأدب المقارن في جامعة القاهرة وعضو «مؤسسة المرأة والذاكرة» و «حركة مساواة» الدولية، ود. أماني صالح أستاذة العلوم السياسية في جامعة مصر الدولية ورئيسة «جمعية دراسات المرأة والحضارة»، منشورتين في كتيب «القوامة: نحو رؤية اجتهادية بديلة»، إصدارات مركز «نون» لقضايا المرأة والأسرة في القاهرة. تقول أبو بكر أن آية القوامة حُمّلت إضافات ليس لها أصل قرآني من جانب المفسرين عبر قرون طويلة، لأسباب ثقافية واجتماعية وتاريخية معقدة، وأن المطلوب تنقيح مفهوم القوامة وإعادة شرحه وتعريفه، لا سيما أنه اكتسب مركزية في الفكر الإسلامي وصار أساساً لتحديد العلاقة بين الجنسين، بخاصة داخل مؤسسة الزواج، على أنها علاقة غير متساوية، يتمتع فيها الرجل بسيادة مطلقة وتُهمَّش المرأة في المجالين الخاص والعام. وتعدّ هذا التفسير المغلوط انحرافاً عن رسالة الإسلام وتشويهاً لصورته بتقديمه كدين تمييز لا كدين كرامة وإنسانية متساوية، ما ينفّر قطاعات كبيرة من النساء، ويعزز المنظور الرافض أي مرجعية دينية. ثم تستعرض تشكُّل مفهوم القوامة وتطوره والتوسع فيه لدى المفسرين، بدءاً من الطبري، مروراً بالزمخشري، والرازي والقرطبي، والبيضاوي، وابن كثير، وصولاً إلى الشيخ محمد عبده الذي جعل من الاختلاف البيولوجي أساساً لتقسيم الأدوار بين الجنسين بحيث يختص كل جنس بأعمال معينة، وهو في ذلك متأثر بفكر الحداثة الغربية الذي اعتمد الثنائية والتنميط والتحديد في كل شيء، وكان من تداعياته، مع التغيرات التي أحدثتها الثورة الصناعية في أوروبا، هذا التقسيم الحاد بين المجالين العام والخاص، وبين عقلانية الذكورة وعاطفية الأنوثة. وفقاً لعبده، فإن علاقة الزوج بزوجته هي علاقة رئيس بمرؤوس. كما يبدو تأثره بالإنجيل في قوله «إن الرجل بمنزلة الرأس والمرأة بمنزلة البدن» وبالثقافة الفيكتورية الإنكليزية للطبقة المتوسطة في قوله أن البيت مملكة صغرى للمرأة وأن الحياة المنزلية هي عملها الطبيعي، وهو ما يعكس تقديساً مصطنعا ومبالغاً فيه للعمل المنزلي الذي تختص به المرأة «كما تقتضي الفطرة». وكان لتفسير عبده هذا أثر كبير في تفسيرات القرن العشرين، ويمثّل تفسيرا سيد قطب في منتصف القرن والشيخ الشعراوي في آخره هذا الاتجاه المحافظ. وفي هذا الخطاب الذي ينظر إلى الأسرة كمؤسسة تراتبية - هرمية تحكمها علاقات قوة وسيطرة ثابتة، لا يُلتفت إلى التناقض بين مبادئ المودة والرحمة أو مفهوم «النفس الواحدة» من ناحية، والقول أن الأسرة لها قائد له الهيمنة وبيده زمام الأمور من ناحية أخرى، كما أنه يتجاهل عوامل التنشئة الاجتماعية للجنسين والتعليم والثقافة والمتغيرات التاريخية والسياسية وتنوّع السياقات. هكذا، تطور مفهوم التكامل بين الطرفين - على حساب الشراكة أو التعاون أو الإنسانية المتساوية - ليحجّم كلاً من الجنسين في مجال عمل واحد فقط، ويبرّر إقصاء النساء عن العمل العام، وإقصاء الرجال عن المهمات التربوية والمسؤوليات الوالدية المشتركة والعمل المنزلي. وبعد الإشارة إلى عدد من الاجتهادات التي قُدّمت على مسار إعادة الفهم والتفسير لمفهوم القوامة (عائشة التيمورية، عزيزة الحبري، زينب رضوان، طرح مجموعة من النسويات المسلمات في الغرب، خالد أبو الفضل، ميسم الفاروقي، أسماء برلاس) تأتي خلاصتها تحت عنوان «نحو تعريف يتسق مع المفهوم القرآني للزواج» لتؤكد أن آية القوامة تشير إلى المسؤولية المالية والمعنوية للرجال تجاه النساء بما أعطاهم الله من زيادة في الميراث، ومن طريق الإنفاق مما يكسبون، بهدف إرساء مبدأ التوزيع العادل للكسب، ومبدأ الإنفاق كمسؤولية تجاه الآخرين، وتعويضاً للدور الإنجابي الذي تقوم به المرأة في معظم الأحيان، وليس بشروط أو كمقابل لأشياء أخرى، مثل الطاعة، أو المعاشرة الزوجية كأن الزواج مقايضة تجارية. وتذهب صالح إلى أن الأمر الخطير تمثّل في بناء نظرية عامة لسلطة الرجل على المرأة اعتماداً على تصعيد آية القوامة – بتأويلها الشائع المنحاز - من مجرد آية تنطوي على حكم جزئي إلى نظرية عامة ومبدأ كلي يحكم تأويل سائر الآيات التي تخص العلاقة بين الجنسين، بل الرؤية العامة لهذه العلاقة. وتنبع خطورة النظرية أو الفكرة العامة الحاكمة من كونها تمارس سلطة وتفرض الانحيازات المتضمَّنة بها على سائر النصوص، بل على عمليات التقنين وعلى الثقافة العامة والسلوك الإنساني، فهي تنقل مرض الانحياز إلى كل خلايا المجتمع وثناياه. وتقوم هذه النظرية على أن هناك أفضلية قَدَرية وطبيعية للرجال على النساء، راجعة إلى إرادة الخالق، وهذه الأفضلية تولّد سلطة خالدة لهم عليهن مهما تدنى قدر الرجل أو ارتفع شأن المرأة. وأن الإنفاق مسألة ثانوية، وزواله لا يعني انهيار سلطة الرجل، فهذه السلطة متحققة للرجل «لأنه رجل». وفي قراءتها البديلة، تؤكد أن التفسير الشائع لآية القوامة ليس الوحيد أو الأصح، بل هو خيار حرص الجنس المستفيد على تكريسه للحفاظ على مصالحه وامتيازاته، وأن الآية لها طرح تفسيري آخر، هو أن الرجال مكلفون القيام على رعاية النساء، بما وهبهم الله وأنعم عليهم من نعم يتفاوت فيها بعضهم عن بعض، سواء كانت نِعماً مادية أم خُلُقية، إضافة إلى الإنفاق عليهن، الذي هو تكليف وواجب وليس مزية، وهو فرض على الرجال وحق للنساء بقطع النظر عن قدرة النساء على الكسب، وذلك لأمرين، أولهما أن الله يخاطب المرأة التاريخية، والنساء في غالبية عصور التاريخ لم يكن لهن دور مهم في النشاط الاقتصادي في ظل نظام إنتاجي يعتمد على العمل العضلي الشاق، قبل تطور الميكنة والحوسبة، وثانيهما أنه حتى في ظل عصر كعصرنا تعمل فيه النساء فإن هناك فترات قد يضطررن فيها إلى الامتناع عن العمل، أثناء الحمل ورعاية الأطفال، كمشروع مشترك للرجل والمرأة على السواء، وهنا يصبح من العدل أن تحظى المرأة، في مقابل هذا الدور، بالكفالة الاقتصادية من الرجل، كحق لا منّة أو فضل. والآية بهذا المعنى هي آية لمصلحة النساء، بل هي نوع من الحماية والتأمين المستدام والضمان الاجتماعي. وعلى غرار ما قالته عائشة التيمورية من قبل في نهاية رسالتها «أستغفر الله أن أكون مدعية بالفضول متطفلة بالدخول على محافل الفحول»، تقول صالح أنها تستشعر نوعاً من التخوف أن تفهم ورقتها على أنها نوع من الاجتراء، فهي اجتهاد فكري لا فقهي، وجهد ثقافي من مسلمة غير مختصّة في علوم الدين «وقد أكون مخطئة في بعض اجتهاداتي فأرجو تنبيهي إلى ذلك من علمائنا الأجلاء». ولا أظن أن رد الغالبية العظمى من الشيوخ الآن سيختلف عن رد الشيخ الفيومي على عائشة قبل أكثر من مئة وعشرين عاماً، على رغم ما طرأ على مجتمعاتنا من تغيرات هائلة، تطورت معها رؤية المثقفات المسلمات كما يتضح من المقارنة بين اجتهاد عائشة واجتهادهن الذي هو أكثر عمقاً وشجاعة، بينما لا تزال رؤية الطرف الآخر كما هي، ما يجعل الشيوخ المعاصرين أكثر رجعية وجموداً من شيوخ القرن التاسع عشر.