«مرآة التأمل في الأمور» رسالة صغيرة لعائشة التيمورية (1840-1902) التي عرفت شاعرة وأديبة ورائدة للنهضة النسائية الحديثة في الشرق. يعود تاريخ الطبعة الأولى لهذه الرسالة إلى عام 1892. وأعاد «ملتقى المرأة والذاكرة» في القاهرة طبعها عام 2002 بتقديم للدكتورة ميرفت حاتم. وعلى هذه الطبعة الأخيرة أعتمد هنا. لا يتجاوز عدد صفحات الرسالة 17 صفحة، كتبتها عائشة بأسلوب عصرها القائم على السجع والإطناب. وضمّنتها ما توصلت إليه من أفكار بعد تأملها في أسباب الشقاق بين الأزواج والزوجات، محاوِلةً تشخيص الداء الذي أصاب الأسر من حولها، كخطوة أولى للعلاج والإصلاح. تقول إن الله أراها سبل الهدى والصواب في ما أمرنا بتلاوته من آيات الكتاب الذي بيّن بصريح المقال حقوق الرجال على النساء والنساء على الرجال فقال: «الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم»، وقوامة الرجل تعني –في نظر عائشة- أن يقوم بأمر الزوجة مجتهداً في حفظها وصونها وأداء كل ما تحتاج إليه. «ثم إن الحق لم يكتفِ بالحكم حتى بيّن السبب بقوله بما فضل الله، يعني بأمور لها وفرة في العقل والدين، ولذا جعل لهم الولاية والإمامة وجعل فيهم الخلفاء والأئمة وميّزهم في الشهادة بين الأمة... وما ذلك إلا لتأكيد فضلهم ووثاقة عدلهم، وبقوله عز وجل «وبما أنفقوا من أموالهم» أي في المهر والمطعم والمشرب والمسكن والكسوة على حسب حال الأزواج والزوجات. كما نبّه عليه في آية أخرى منها قوله تعالى: «وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها» أي على الوالدات. وكما وجب ذلك بالنص وجب بالإجماع. وتقارن عائشة بين النص والواقع في زمانها، فتقول إن معشر الفتيان في هذا الزمان أعرضوا عن تلاوة هذه الآيات فضلاً عن تدبر معانيها، وأعمى الجهل بصائرهم فصار كل همهم عندما يهمّون بالاقتران البحث عن الحلي والحلل والضياع والعقار، لا عن النسب والتدين والعفة والوقار، وهذا هو مستهل الخيبة وأصل الشقاء. حتى إذا صار للفتى منهم، أولئك الذين لا يمتلكون من الرجولة إلا صورتها، الولاء على تلك الزوجة تمتع كيف شاء بأموالها، وقعد مستغنياً عن الجهد في الاكتساب، وراح يبدد تلك الثروة المستعارة في أشكال مختلفة من اللهو. ويستمر على هذه الحال من العبث بالمال وعدم تحمل المسؤولية تجاه زوجته وبيته، حتى إذا نفد من يده الدينار والدرهم تقابله الزوجة بأشد النفور، فقد بذّر المال الذي لم يأت به، والبيت لا يقبل في النفقة أعذاراً، فتقوم الزوجة بإدارة خدرها وتتحمل هي المسؤولية «ومن ثم انتقلت السلطة إلى الزوجات، وصرن ربات التدبير وآل النفقات، وتخلى الرجال عما لهم من الزعامة التي كانت أوجبت لهم الهيبة والوقار». وتقول عائشة في موضع تالٍ إن قوله تعالى «ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف» دلّ على أن «للنساء على الأزواج حقوقاً يلزم حفظها ويجب مراعاتها من حسن العشرة وأداء الخدمة وترك الأضرار، وأن حق الزوجية لا يتم إلا إذا كان كل واحد منهما يرعى للآخر في ما له وعليه. فيجب على الزوج أن يقوم بكل حقوقها ومصالحها كما يجب عليها طاعته والانقياد لأمره»، مشيرة إلى أن الزوج إن لم يقم بواجباته تلك ينقلب الموضوع ويصير لها عليه الولاء. رؤية عائشة للقوامة إذاً أنها ليست حقاً ثابتاً ومطلقاً للرجل، بل هي مشروطة بقيامه بالإنفاق وأداء المسؤولية المناطة به، وأنها ليست محصورة في جنس الرجال، بل يمكن أن تنتقل إلى النساء حال تقاعسهم وقيامهن بمسؤولياتهم. ومن هنا يمكن القول إنها محاولة رائدة لقراءة النص الديني من منظور نسوي، يُنصف المرأة ولا ينحاز للرجل، انطلاقاً من عدل الشريعة وعدم تمييزها جنساً على جنس، خاضتها عائشة بقدر كبير من الحذر، ومن المحافظة أيضاً، ويمكن تفهم ذلك بالطبع في ضوء ظروف عصرها، وبأن المحاولات الرائدة تتسم عادة بالتردد والحذر، وربما أيضاً ببعض غموض. مثل هذه المحاولة لا بد من أن تثير وتستثير، تستثير الرجال المحافظين أو «الشيوخ» فتثير جدلاً ورداً وحرصاً من ناحيتهم على تفنيد آراء عائشة، وهو ما فعله الشيخ عبدالله الفيومي، أحد علماء الأزهر والمدرّس في إحدى المدارس الأميرية، الذي تجاوز رده على رسالة عائشة (الملحَق بالطبعة نفسها) 67 صفحة، أي ما يقرب من 4 أضعاف الرسالة الأصلية. وقد جاء تحت عنوان «لسان الجمهور على مرآة التأمل في الأمور»، وكلمة «الجمهور» هنا لها دلالتها، فالرد ليس رده هو أو اجتهاده هو، وليس مناقشة هادئة متفهّمة واسعة الأفق، بل رد جمهور العلماء الذين يسرد آراءهم تفصيليّاً، ويضعها أمام آراء عائشة التي لا تعدو أن تكون –من ثمّ- آراء شاذة ينبغي أن تُنبَذ وألا يُعتدّ بها. وقد حصر الشيخ ردّه في أربعة فصول، وخاتمة تشمل السقطات العربية والأغاليط النحوية، ويتعجّب كيف يتجاسر الجاهلون باللغة على اقتحام أسوار التأليف لا سيما في العلوم الدينية. لا يدخل الشيخ في صلب رده، أو رد الجمهور كما اختار أن يعبّر، إلا بعد مقدمات طويلة ذكر فيها من ضمن ما ذكر، أن الأديبة التي أبدعت في النظم والنثر قد حادت في هذه الرسالة عن الجادة، وأن الله أقام في كل جيل «رجالاً» من صناديد الحكماء وأساطين الفضلاء نصبوا أنفسهم لنصيحة الأمة، وأن واجب العلماء صون الشرع من دسائس ذوي الأهواء. وعلى رغم أن الشيخ أشار إلى أن المرأة في الممالك الغربية شاركت الرجل في كثير من الأعمال وأثبتت كفاءة وثباتاً، فإنه يعود ويحصر المرأة في زاوية واحدة، الأنثى مصدر غواية الرجل، ويذهب إلى أن الشرائع الدينية والقوانين السياسية جاءت بحرمان النساء من المواقع التي بها يفتنّ الرجال، خوفاً من أن تُنتَهك حرمات الآداب وتُهدَم دعائم العمران. وأن الملل والنحل أجمعت على منعهن من كثير مما اختصّ به الرجال، كالخطابة الشرعية والإمامة والنبوة والجهاد، لنقصهن في ذلك عن الرجال، كما وردت النصوص القاطعة. ويستشهد هنا بالطبع بحديث «ناقصات عقل ودين»، وينسب إلى النبيّ حديثاً لا أصل له «اعص هواك والنساء وأطع من شئت»! هو الذي يتهم عائشة بجهلها في أمور الدين. وفي رده يقول إن عائشة تجرّأت على تفسير الآيات التي أوردتها برأيها معتمدة على شهرتها في الأدب، لكن هذا مجال والتفسير مجال آخر، وإنها انتهكت حرمة كلام رب الأرباب، وارتكبت جريمة التهجم على الآيات الشريفة، وإنها أرادت أن تنصر سربها فكذبت ربّها. ويؤكد أن الخوض في عباب التأويل والتفاسير القرآنية «ميدان الفحول من العلماء الذين أفنوا في اقتطاف ثمرات المعارف أعمارهم وملأوا من ذخائر الرواية والدراية أفكارهم»، وهو لا يستبعد النساء فقط، كما يفهم من عبارته هذه، بل يغلق أمام الرجال الطريق إلى الاجتهاد، إذ عليهم تقليد السابقين «وأما أمثالنا فليس عليه في الشرائع إلا تقليد مذهب من المذاهب الأربعة»، فكل خير في اتباع من سلف. ويؤكد –بناء على أقوال مفسرين وفقهاء كأبي السعود والفخر الرازي والبيضاوي والزمخشري والواحدي وابن عابدين- أن الإنفاق ليس في نظير القيام ولا سبب فيه بل هو نظير زيادة استحقاقه في الميراث عنها، وأن شأن الرجل القيام على زوجته بالأمر والنهي قيام الولاة على الرعية، وهي العبارة التي كرّرها مرات، (حتى هذه النظرية في الحكم تجاوزها الزمن بعد إقرار حق الشعوب في الاختيار والمساءلة والاعتراض وحكم نفسها بنفسها عبر آليات ديموقراطية) وأن هذه السلطة خولتها له الطبيعة الفطرية والنصوص الشرعية بغض النظر عن إنفاقه (أو أي أمر آخر) من عدمه. وأن مسألة انقلاب القوامة أو الولاية إلى النساء لم يقل بها أحد من المفسرين قبلها.