قبل سنوات قررت أن الفيلسوف الفرنسي برنار - هنري ليفي اعتذاري إسرائيلي آخر مهما تفلسف في تغليف آرائه، ومنعت نفسي من قراءة أي شيء له أو عنه، غير أن طريقينا تقاطعا هذا الشهر مرتين، وأنا أجده يهاجم من هم أفضل منه ومن إسرائيل ألف مرة. قرب بداية هذا الشهر تحدث ليفي في مؤتمر عن المحرقة في جنيف، ورفض القول إن العرب لم يشاركوا في جريمة قتل اليهود، وكان دليله معرفة الحاج أمين الحسيني، مفتي القدس، بهتلر، ووجود فرقة عربية مزعومة من العرب وراء جيش رومل أرادت إبادة اليهود في فلسطين. علقت على كلام ليفي في التاسع من هذا الشهر، واعتقدت أن سنوات ستمضي قبل أن أحتاج الى ذكره مرة ثانية، غير أن الشهر كان يقترب من نهايته عندما وجدت أن ليفي وإيلي فيزل الذي يطارد نازيين ماتوا بدل النازيين الإسرائيليين، وكلود لانزمان، مخرج فيلم «المحرقة»، كتبوا رسالة تحرض دول العالم على معارضة ترشيح وزير الثقافة المصري فاروق حسني لمنصب المدير العام لمنظمة «يونسكو» في باريس، مع أن حكومة المتطرفين في إسرائيل تراجعت عن معارضة ترشيحه، فهم أكثر تطرفاً من المتطرفين في إسرائيل. كنت أعرف الحاج أمين الحسيني وأقدره وأحترمه، وعلاقته بهتلر سبقت الهولوكوست بسنوات، وهو لم يقتل أحداً بيديه كزعماء إسرائيل الذين يتستر عليهم أمثال ليفي. الوزير فاروق حسني اعتبرته دائماً صديقاً، فهو فنان ومثقف معتدل وجريء في آن وله معارك مشهودة مع المتطرفين السياسيين والدينيين داخل مصر وخارجها، لم يرها موقِّعو الرسالة وإنما كتبوا أن فاروق حسني قال في نيسان (ابريل) 2001 إن «إسرائيل لم تساهم في الحضارة البشرية، وإن ثقافتها غير إنسانية وعدوانية وعنصرية ومدعية...». طبعاً كل ما سبق صحيح، وفي أهمية الكلام تاريخ قوله، فهو جاء خلال أسابيع من تسلم مجرم الحرب آرييل شارون رئاسة الوزارة في إسرائيل وتدميره عملية السلام. أقطع الموضوع لأقول عن نفسي إنه عندما سار إسحق رابين في عملية السلام في التسعينات قبلتُ للفلسطينيين دولة في 22 في المئة من أرضهم. وعندما يختار الإسرائيليون بنيامين نتانياهو رئيس وزراء وهو يقول إنه لا يقبل دولة فلسطينية، أقول إنني لا أقبل إسرائيل كلها، فهي أرض مسروقة من الفلسطينيين باعتراف ديفيد بن غوريون، ولا أساس لها في تاريخ أو جغرافيا، فهي تبقى بؤرة استيطانية حتى تقوم دولة فلسطين. رسالة الاعتراض على ترشيح فاروق حسني تنسب إليه وصفه إسرائيل بأنها عدو، أو أكبر عدو، وهي كذلك أيضاً طالما لم تقم دولة فلسطينية. وتضيف الرسالة أن الوزير المصري عارض إدخال كتب إسرائيلية مكتبة الإسكندرية، وقال إنه سيحرقها بنفسه لو دخلت. كلنا يعارض كتب إسرائيل وأي تطبيع قبل نهاية الاحتلال المجرم وقيام دولة فلسطين المستقلة، غير أن الرسالة لا ترى قتل النساء والأطفال، بل تريد من الرئيس حسني مبارك نفسه أن يسحب ترشيح وزيره «الذي إذا سمع كلمة ثقافة يرد بحرق كتب». فاروق حسني مثقف تنويري وأشرف منهم جميعاً وحرق الكتب لم يحصل، ولكن ما حصل هو حرق المدنيين في بيوتهم في حرب سرقة فلسطين سنة 1948، والعدوان الثلاثي سنة 1956، وحرب 1967 التي بدأتها إسرائيل، واجتياح لبنان 1982، وحرب صيف 2006، وحرب قطاع غزة الأخيرة، وكل جريمة حرب إسرائيلية بينها. فاروق حسني بريء من كل هذا، أما المذنبون فهم الذين يدافعون عن جرائم إسرائيل ويتسترون عليها الى درجة المشاركة فيها، وينظرون الى جرائم ارتكبت قبل 60 سنة أو أكثر ويعمون عن جرائم يرتكبها يهود مثلهم اليوم. إذا كان فاروق حسني لا يصلح مديراً عاماً ل «يونسكو»، فمن يصلح؟ اقترح الرئيس الإسرائيلي السابق موشي كاتساف، المتهم باغتصاب مجنّدة، أو رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت الذي يواجه تهم فساد. ولكن أفضل من هذا وذاك رئيس الموساد مائير داغان، أو «رجل العام الإسرائيلي» الذي قيل في وصفه بعد اختيار القناة الثانية الإسرائيلية له العام الماضي إنه كان يقتل الفلسطينيين بيديه، وهوايته، كما شهد له شارون، هي فصل الرؤوس عن الأجساد بسكين يابانية بدل أن تكون الرسم كما يفعل فاروق حسني. وأنا لم أسمع اسم داغان على مدى 30 سنة من عمره النجس إلا مقروناً بجريمة. نعم اقترح مائير داغان مرشحاً لإسرائيل الى «يونسكو» فهو يمثل وجهها الحقيقي، وجه الاحتلال والقتل والتدمير وجرائم الحرب، أو الوجه الذي لا يريد برنار - هنري ليفي والمتفلسفون أمثاله أن يروه أو يعترفوا به.