عادت أظافري ضعيفة كما كانت، فعدت إلى قضمها. أتخلص من زوائدها حتى أصل إلى الجلد واللحم. أفرغ توتري فيها. أنتبه إلى أني أشوه أصابعي فأحاول التركيز مع الكتابة، مع ملامسة الأصابع المسكينة لأزرار الكيبورد، حتى لا أدمر ما بنيته. نعم، فلقد عملت على تجميلها منذ أشهر وأصلحت ما كنت أفسدته عبر سنوات بالطريقة نفسها وها أنا أعود إلى تشويهها من جديد. أتعرف أنك ترتبط في ذهني بألوان طلاء الأظافر؟ بملمس الليمون على جلدي ورائحته التي اختزنتها مسامي؟ كنت أدعك الليمون كل ليلة بأصابعي وأفركه على جلدي، أقربه من أنفي وأشمه. رائحة الليمون ليست نفّاذة ولن يشمها إلا من يقترب من جلدي، لن يشمها إلاي. جلد أمي يحتفظ برائحة أخرى، ملتصقة بها طوال الوقت، لم أكن أحب تلك الرائحة، ولم أكن أقترب من جلدها كثيراً، فلم يكن الاحتضان فعلاً يومياً، فهو ليس من عادات أمي، وكنت أخجل أن أبادر أنا باحتضانها. بعد أن غادرتها وصرت أزورها كغريبة، أصبحت دعابتي لها هو تدريبها على الحضن فأقول لها: لفي دراعك حواليا، أيوه كدا. تضحك كطفلة بلا أسنان وتقول: هو إيه دا! أكمل تدريبي لها وأضحك بدوري: حضنك حلو قوي على فكرة. لم أعد أنفر من رائحة جلد أمي. إنها رائحة الحليب، فأنا لم أرضع من ثدييها حين ولدت، فلم يكن لبنها يكفيني. الآن فقط عرفت أن الطبيعة بلا نقصان يشوبها، أنها فقط قد تخطئ الحسابات في المكان أو الزمن. الحليب كان في جسد أمي لكنه تسرب من ثدييها إلى جلدها فاختزن جلدها رائحة حليبي. الأشياء التي لا تحدث لا تنتهي. تبقى رائحتها تحت جلودنا. أشعر أحياناً أن الذنوب التي لم تقترف تلوث قلوبنا، هل أغالي؟! فلنقل أن الأوجاع التي لا يعبر عنها تلوث دمنا، هذا أوقع، فلنقل أن البوح ينهي الحكايات بينما الأسرار تزيدها بؤساً. الغموض يطيل عمر الحكاية وأنا لا أضمن الحياة ليوم واحد آخر لذلك فلن أحاكي ألف ليلة وليلة. في يوم ما، كنت أجرب حماماً بلدياً. معظم المترددات عاريات تماماً، وكنت أرتدي البكيني حتى لا أتعرى مثلهن أمام الغرباء. كانت صديقتي تبدي إعجابها بالبكيني الأزرق وتسألني لماذا لا أرتديه على البحر؟ أجبتها بأن جسدي لا يناسبه ارتداء مايوه من قطعتين فأجسادنا الشرقية باستداراتها مهما كنا نحيفات لا تليق به. تعجبت صديقتي وقالت إن البكيني يليق بنحافتي. لم أخبر صديقتي أني أخجل من جسدي ومن جسدها ومن الأجساد العارية حولي، حتى أن عينيْ تتردد في التطلع إلى الأجساد أو غض الطرف عنها. آخر اليوم اعتادت عيناي على العري. كنت منشغلة بملمس الماء الساخن، كثافة البخار، ملمس الليفة وسيدة بدينة عفية تدلك لوناً أحمر على جسدي. يطغى الأحمر على رائحة الخل الذي تضعه المدلكة في الليفة الخشنة، لتزيل ما علق بالجلد من أوساخ. علق اللون في ذاكرتي أكثر من تلك الرائحة اللاذعة. لمحت تلك الطفلة العارية. جسدها جسد طفلة لم تتعد السادسة عشرة، تقف شاردة في انتظار توجيهات أمها، تقول المكيسة البدينة أنها عروسة في التاسعة عشرة من عمرها. بدت بائسة لا تعرف ماذا تفعل بنفسها في هذا المكان. استلقت بجواري وجاءت سيدة أخرى لتقوم بإعداد جسد العروس، دلكته وفرشت فوقه قناع الترمس والزبادي. رائحة الحليب كانت تناوش أنفي، فتشعرني بألفة. كنت أستعد لارتداء ملابسي حين لمحت العروس الطفلة تجلس على الأرض تكور جسدها العاري وتقرب كفها من أنفها، تغمض عينيها وهي تشم رائحة الليمون. تقرب أنفها من كتفها وتواصل الاستمتاع برائحة التصقت بذاكرتها كما التصقت بذاكرتي. زوجة البواب تنظف الشقة وأنا أشم رائحة شبيهة تطوف حولي، تقول أم فاطمة: إنه ملمع الخشب برائحة البرتقال الذي تحبينه. رائحة الليمون، رائحة البرتقال، رائحة الحليب، رائحة الحياة. أتكور على مقعدي أمام التلفزيون، بين يديْ كوب شاي بالحليب، أوجه الريموت كنترول لأحول التلفزيون إلى راديو. إنها الثالثة عصراً وصوت أم كلثوم الآن سينافس تلك الروائح.