لم يعد هناك أدنى شك في استمرار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في طريقها المرسوم. فهي بدأت عملياً في الإجراءات التمهيدية لإعلان القرار الظني في اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري. كما أكدت الدول الأعضاء في مجلس الأمن، وآخرها فرنسا، التزام المحكمة وصولاً الى تسديد مساهمتها المالية في موازنة المحكمة. وقد اقتضى مرور وقت طويل كي يقتنع «حزب الله»، الذي عارض المحكمة منذ تشكيلها وعارض طريقة عملها ورفض مسبقاً كل ما سيصدر عنها، أن مسيرتها لم تعد مرتبطة بأي قرار لبناني من أي نوع. لكن طريقته في معارضة المحكمة، غير المؤثرة في أي حال على مسيرتها، أدت الى شلل حكومي تام منذ انتخابات 2005، وفي ظل رئاستي فؤاد السنيورة وسعد الحريري على السواء لرئاسة الحكومة. أي أن قضية المحكمة باتت تشكل مأزقاً سياسياً في لبنان، ما دام توزيع الحصص الطائفية في الحكومة قائماً. وما دام «حزب الله»، مع شريكه حركة «أمل»، يحتكر التمثيل الشيعي في الحكومة. وما دام التهديد بالانسحاب من جلسات الوزراء معتمداً حالياً، بعدما اعتمد الانسحاب في الحكومة السابقة. وبات الخروج من المأزق عبر إيجاد الصيغة التي تضمن عودة العمل الحكومي ومؤسسات الدولة، بعد طول جمود وإهمال مصالح المواطن في كل الميادين، وبين التعايش مع استمرار عمل المحكمة الدولية. وبديهي لن يقلع العمل الحكومي إلا بعودة مشاركة الوزراء الشيعة (التمثيل المعارض غير الشيعي يرتبط بقرار «حزب الله») في الحكومة. وهذا ما حاول الحزب استغلاله الى أقصى الحدود في معركته ضد المحكمة الدولية، ومن أجل انتزاع موقف رسمي مناهض لها. ووضع سقفاً عالياً جداً لمطالبه في هذا الشأن، وصولاً الى التهديد والتحذير بمرحلة جديدة في لبنان، وتلميحات مباشرة الى إدخال تعديل بالقوة على المعادلة السياسية. إلا أنه اتضح أن هذه السياسة التصعيدية المقصود بها الداخل اللبناني، أثارت كثيراً من القلق في الجوار الإقليمي والدولي. على نحو أعطت معه نتائج عكسية، بمعنى أن الأسرة الدولية التي كانت وراء إقرار المحكمة تتمسك بها حالياً أكثر من أي وقت مضى. واستنفر التصعيد الذي يعيد أشباح الفتنة السنية - الشيعية قوى المنطقة الرافضة لها. واتسعت دائرة الجهود من أجل محاصرتها. في مرحلة أولى اعتبر «حزب الله» أن هذه الجهود ينبغي أن تقنع سعد الحريري، بصفتيه «ولي الدم» ورئيس الحكومة، بالتخلي عن المحكمة. لكن المحكمة لم تعد مرتبطة بهذا التخلي، وهي مستمرة على رغم كل شيء. في المرحلة الحالية، يسعى الحزب الى فتح ثغرة سياسية، بعدما تيقن أن المحكمة مستمرة وأن قرارها الظني سيصدر. والمطلوب حالياً هو كيفية خفض السقف العالي لمواقفه. ليشكل المسعى السعودي - السوري السلم الذي سيهبط عليه من الشجرة العالية. في هذا المعنى بات هذا المسعى الذي لم يتضح مضمونه بعد، لمصلحة «حزب الله». وهو التقط هذه المصلحة، فراح ينوه بها ويعول عليها، في المدى المنظور على الأقل. لأنها السلم الوحيد الموجود للهبوط من الشجرة، ما دام قرار قلب الطاولة على الجميع بالقوة ليس مطروحاً حالياً. وأي خطوة إيجابية من الحزب لملاقاة هذا المسعى وتوظيفه هي استعادة العمل الحكومي، وإن كانت فيها مغامرة عدم تخلي لبنان الرسمي عن المحكمة. لكن جمود العمل الحكومي بات يشكل نقطة سلبية في مواقف الحزب، بالنسبة الى المواطنين الذين ينتظرون الكثير من حكومتهم، والذين يجدون تعطيل العمل الحكومي عقاباً لهم وليس للأطراف السياسية المتمسكة بالمحكمة. بالتأكيد تتطلب هذه الملاقاة شجاعة سياسية وأدبية وأخلاقية، يقول «حزب الله» انه يتمتع بها من دون عقدة نقص.