من الصعب تحديد متى اكتملت هيمنة الغرب الثقافية والسياسية في العالم، ولكن من الأكيد أنها كانت في أوجها في القرن التاسع عشر. أعني بالغرب هنا جغرافياً الدول الصناعية في حينه، أي أميركا الشمالية وأوروبا وأوقيانيا (كانت أستراليا مستعمرات بريطانية يقطنها بريطانيون). ثقافة الغرب يصفها مفكرون بأنها الثقافة «المسيحية اليهودية» (Judeo Christian) وإثنيته الطاغية هي إثنية «البيض الأوروبيين». هذه المجموعة كانت في ذلك الحين تستعمر معظم دول العالم الثالث، كل إفريقيا والقسم الأكبر من آسيا ومعظم دول أميركا اللاتينية. تخوفُ الغرب من خسارة نفوذه في العالم يعود إلى منتصف القرن الماضي عندما بدأت حقبة «إنهاء الاستعمار» (decolonization). الخطر الأكبر يومها كان الثورة الديموغرافية في العالم الثالث، التي نتج منها ارتفاع غير مسبوق في النمو الطبيعي للسكان، بينما كان الغرب يشهد انخفاضاً في نسب نموه السكاني، ما شكّل تقلصاً متسارعاً في نسبة «البيض الأوروبيين» من سكان العالم. انخفضت هذه النسبة، وفق إحصاءات الأممالمتحدة، من 30 في المئة في أول القرن العشرين، إلى 15 في المئة حالياً، وستبلغ نسبة البيض الأوروبيين من مجموع سكان العالم 13 في المئة فقط بحلول عام 2050. بعد الحرب العالمية الثانية بدأت موجة الهجرة الحديثة لمواطني دول العالم الثالث إلى دول الغرب الغنية، سعياً وراء «العمل اللائق،» وأحياناً بدعوة من هذه الدول لسد العجز في اليد العاملة لديها. وسرعان ما تكثفت هذه الهجرة بدفع من عوامل أربعة: أولاً الثورة التكنولوجية في مجالي الاتصالات والمواصلات التي قلّصت المسافات وفتحت آفاق المعرفة والطموحات في بلدان الجنوب. ثانياً عملية التحرير الواسعة من الاستعمار، التي حصلت بالأخص بين نهاية الحرب العالمية الثانية وأواخر الستينات. ثالثاً الحروب التي اشتعلت في أنحاء عديدة من العالم الثالث، بخاصة في الشرق الأوسط وإفريقيا، لتضيف التهجير إلى الهجرة. وأخيراً الفارق المتزايد بين مستوى المعيشة في دول الشمال ودول الجنوب. ترافق ازدياد الهجرة مع صعود الحركات المعادية لها في كل بلدان الغرب. واليوم هناك انتفاضة تعمّ هذه البلدان، من أميركا إلى أستراليا، مروراً بأوروبا، تطالب بالحفاظ على ثقافة وإثنية السكان الحاليين ومحاربة الهجرة التي تؤسس لمجتمعات متعددة الثقافات والإثنيات. الثقافة المطلوب الحفاظ عليها هي طبعاً الثقافة «اليهودية المسيحية،» والإثنية هي إثنية «البيض الأوروبيين». بالمقابل، فالخطر الداهم، بالنسبة لهؤلاء يأتي من المسلمين في شكل خاص، كما من السمر والسود، من كل الأديان، بما في ذلك المسيحيون منهم. في أميركا جاء المعادون للتعدد الثقافي والإثني بترامب رئيساً لأنه وعد بطرد الملايين من اللاتين (أي من أصول أميركا اللاتينية) غير الشرعيين، وبناء حائط بين الولاياتالمتحدة والمكسيك لمنع دخولهم مجدداً، وكذلك منع دخول المسلمين، وفي الوقت نفسه دعوة الأوروبيين البيض للعيش في أميركا كمواطنين. وفي أوروبا هناك دول (مثل هنغاريا وبولندا) تحكمها اليوم أحزاب معادية للتعدد الثقافي، وأخرى (مثل فرنسا وهولندا والنمسا والنروج) حيث أصبح الحزب الثاني فيها معادياً للهجرة، وهذه الأحزاب هي في صعود مستمر من حيث شعبيتها في كل البلدان الأوروبية من دون استثناء. أما أوستراليا فقد أصبح معروفاً عداء حكومتها للمهاجرين وخرقها الفاضح لحقوق الإنسان في احتجازها طالبي اللجوء في مراكز بائسة أشبه بالسجون، دانها المجتمع الدولي بشدة. قلق البيض من خسارة هيمنتهم في الولاياتالمتحدة له ما يبرره. ففي أميركا كان البيض يشكلون ما يقارب 90 في المئة من مجموع السكان في منتصف القرن الماضي ولكن نسبتهم بدأت تتضاءل منذ ذلك الحين إلى أن وصلت اليوم إلى حوالى 60 في المئة. وتظهر الإسقاطات الرسمية أن البيض سيصبحون من الأقليات خلال ربع القرن المقبل. الأنكى بالنسبة لهؤلاء هو خسارة هيمنتهم السياسية. فأوباما، أول رئيس أسود، نجح في دورتين انتخابيتين على رغم أنه لم ينل سوى 45 في المئة من أصوات البيض في الأولى و41 في المئة في الثانية. من هنا جاءت جاذبية طرح ترامب تغيير مسار التاريخ، وإعادة الهيمنة التي نعم فيها البيض في الماضي. في احتفال كبير لحركة «اليمين البديل» (Alt Right) المساند لترامب، والحليف الفكري والشعبي لستيف بانون، مستشار الشؤون الاستراتيجية في البيت الأبيض، أقيم مباشرة بعد نجاح ترامب في الانتخابات، قال أحد قيادييه البارزين في خطابه الختامي: «أميركا كانت حتى الجيل الماضي بلاد بيضاء، صُمّمت من أجلنا ومن أجل أجيالنا القادمة. إنها من صنعنا، إنها ميراثنا، إنها ملكنا». كان الشعار المهيمن خلال الاجتماع «لنجعل أميركا بيضاء مجدداً» في تحريف لشعار ترامب الانتخابي «لنجعل أميركا عظيمة مجدداً». قلق مشابه موجود في أوروبا على رغم أن هجرة المسلمين والإفريقيين التي يشكو منها المعادون للهجرة هناك لا تشكل خطراً داهماً بالنسبة للبيض الأوروبيين، قد يهدد الطبيعة المسيحية لأوروبا، كما يدّعي بعض القادة الأوروبيين أمثال فيكتور أوربان رئيس وزارة هنغاريا، أو قد يهدد التركيبة الإثنية فيها. فنسبة المسلمين في أوروبا، البالغ عدد سكانها حوالى 750 مليون نسمة، لا تتجاوز 3 في المئة، ونسبة السود الإفريقيين هي أقل من 2 في المئة. على رغم ذلك فقلق الأوروبيين في هذا المجال يضاهي، بل يفوق في كثير من الأحيان، قلق الأميركيين. تقول مارين لوبن، زعيمة «الجبهة الوطنية» الفرنسية المعادية للهجرة في وصف المهاجرين: هل ترحب في منزلك ب 12 مهاجراً غير شرعي؟ طبعاً لا. إضافة إلى ذلك... فبعضهم يسرقون محفظتك ويتعدون على زوجتك... ولذا فنحن (في الجبهة) مضيافون ولكننا نقرر من نستضيف». وتضيف في مناسبة أخرى أن «على فرنسا أن تبقى فرنسا» أي ثقافياً وإثنياً. أما فيكتور أوربان رئيس وزراء هنغاريا فهو أكثر وضوحاً في هذا المجال إذ يؤكد «أن كل من يدخل الاتحاد الأوروبي كمهاجر يعتبر مهاجراً غير شرعي». سياسة المعادين للهجرة تتكون من أربعة بنود أساسية: أولاً إيقاف الهجرة بإنشاء حواجز من الأسلاك الشائكة والمراقبة البوليسية الصارمة كما فعلت بعض دول أوروبا الشرقيةكهنغاريا وبولونيا، أو بناء جدار فاصل كما ينوي فعله الرئيس الأميركي. ثانياً محاولة التخلص من غير «البيض الأوروبيين» الموجودين داخل البلاد بطريقة غير شرعية، أو حتى شرعية، من خلال سحب الجنسية لحجج مختلفة، وفي الوقت نفسه دعوة المرغوب فيهم للمجيء والعيش في البلاد. ثالثاً اتخاذ إجراءات وسياسات تشجّع على رفع معدلات الخصوبة بين المواطنين البيض الحاليين، أو على الأقل وقف تراجعها، وتكثيف المساعدات لتحديد النسل في بلاد العالم الثالث. المواجهة في بلاد الغرب هي، كما تقول مارين لوبن بحق، ليست بين اليمين واليسار، بل بين ال «الوطنيين» (Patriotes) وال «العالميين» (globalistes)، أي بين الذين يريدون الحفاظ على ثقافة وإثنية البلاد، وبين الذين يؤمنون بتعدد الثقافات. بمعنى آخر فالمواجهة اليوم هي بين الذين يريدون إيقاف الهجرة والتعددية التي تنتج منها، وبين الذين يتقبلون أو يحبّذون هذه التعددية. قد يقول البعض إن من حق الغربيين الحفاظ على هويتهم الثقافية والإثنية ولكن السؤال هو: هل باستطاعتهم أن يفعلوا ذلك؟ سياسات إيقاف الهجرة كلها فشلت حتى الآن. لا الأسلاك الشائكة أوقفت الهجرة ولا الجدران فعلت ذلك. كل ما تستطيع أن تفعله سياسات «الوطنيين» هي تأخير المحتم. فتكنولوجيا الاتصالات والمواصلات ستتكثف وتتقدّم نوعياً، ما سيدفع إلى ذوبان الحدود أكثر فأكثر، والحروب لن تتوقف في المستقبل المنظور. حتى منتصف القرن الماضي كانت الدول المستعمرة تفعل ما تريد في مستعمراتها من دون أن يشعر شعبها بشيء، لا هجرة ولا إرهاب. فلسطين أُعطيت لأوروبيين على أنها أرض بلا شعب تعطى لشعب من دون أرض. لم يشعر الأوروبيون بالظلم الحاصل وبمليوني مهجّر من بيوتهم وبلداتهم. اليوم أصبح التهجير عابراً للحدود، فالمهجّرون العرب والأفغان والأفريقيون يخترقون الحدود الأوروبية على رغم الجدران والأسلاك الشائكة والحراسة المكثفة. وعلى رغم أن بلاد الغرب قد ضحت بكثير من ديموقراطيتها وعسكرها لمحاربة الإرهاب، ازداد الإرهاب شراسة وحراكاً ليصل إلى معظم تلك البلدان، بخاصة أن بعضه خارجي الإيحاء أو التدبير، ولكنه محلي التنفيذ. أما فارق الدخل بين العالم الثالث والغرب فهو يتعاظم بدلاً من أن يتراجع ما سيزيد في دفع الهجرة الاقتصادية. «الوطنيون» هم في الجهة الخاطئة من التاريخ وهم، كما قال أحدهم، «مثل الذي يحاول دفع المطر ليعيده إلى السماء». لا شك في أن الغلبة ستكون في النهاية لمسار التاريخ، وسيصبح العالم تعددياً واندماجياً، وسيصبح ذلك في النهاية طبيعياً. المشكلة هي في المرحلة الانتقالية. فالمقاومة الشرسة التي تشهدها دول الغرب للهجرة أدت إلى نشوء الأحزاب اليمينية المتطرفة وازدياد شعبيتها وتسلّمها الحكم في كثير من تلك البلدان. الأخطر من ذلك، هو صعود الحركات النيو فاشية والنيو نازية في أميركا وأوروبا التي تؤمن بالعنف طريقة للوصول إلى أهدافها وفق ما وثقته حديثاً مجلة نيوزويك الأميركية. أما الغارديان الإنكليزية فتُنبّه من خطر دخول هذه الحركات في صلب الحياة السياسية الأوروبية. هذه الحال ستتفاقم في المستقبل المنظور، اللهم إلا إذا تقلّصت القيادات الشعبوية في بلدان الغرب بسرعة، واستُبدلت بقيادات متنوّرة، تفهم مسار التاريخ المحتوم، فتسهّله وتدوّر زواياه، بدلاً من محاربته.