صدر تقريران لافتان الأسبوعين الماضيين لكل من «مجموعة الأزمات الدولية» و «مؤسسة السلام الدولي» يستحقان التوقف عندهما والتدقيق في معنى رسائل كل منهما. فبعنوان «المحاكمة بالنار: سياسات المحكمة الخاصة بلبنان»، أوصى تقرير «مجموعة الأزمات الدولية» بصفقات للقفز على العدالة بذريعة الحفاظ على الاستقرار في لبنان، واقترح «تسويات» و «سيناريوهات» هدفها المواربة داخل مجلس الأمن وعبر المحاكمة الغيابية للذين يصدر قرار ظني ضدهم بتهمة الضلوع في اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري ورفاقه ال 22. هذا التقرير الذي حرره وأعدّه بالدرجة الأولى بيتر هارلنغ الذي يتخذ من دمشق مقراً دائماً، وله منصب «مدير مشروع العراق وسورية ولبنان» في «مجموعة الأزمات»، أتى على ذكر سورية أكثر مما ذكر لبنان، وتحدث بلغة تحريضية مذهبية غير مقبولة. فقد جاء فيه، مثلاً، في إشارة الى تهديدات «حزب الله» بنسف الاستقرار في حال صدور قرار ظني ضد أفراد من الحزب، ان «الحركة الشيعية التي هددت بحدوث كارثة، لا تستطيع أن لا تفعل شيئاً»، ورئيس الحكومة الحالي سعد الحريري «الذي تولى زعامة الطائفة السنية، سيدفع ثمناً باهظاً لإدارة ظهره لمقتل الرجل الذي لم يكن والده فحسب بل كان زعيماً بارزاً للطائفة ايضاً». وعليه، تقترح «مجموعة الأزمات» التوصل الى «تسوية يمكن من خلالها إبعاد لبنان الى حد ما عن المحكمة»، وإبرام الصفقات على حساب العدالة والمحكمة، على أساس أن الهدف هو «ألا يكون الخاسر الأكبر في هذه الأزمة هو الشعب اللبناني»، بحسب قول روبرت مالي، مدير برنامج مجموعة الأزمات للشرق الأوسط وشمال أفريقيا. إلا أن معظم الشعب اللبناني، بحسب تقرير «مؤسسة السلام الدولي» الذي تضمن استطلاع آراء الرأي العام، يدعم المحكمة الدولية بنسبة ثلاثة أخماسه، و60 في المئة من اللبنانيين يريدون المضي الى العدالة بصرف النظر عن العواقب. اللافت أيضاً، بحسب الاستطلاع، ان 40 في المئة من شيعة لبنان يدعمون المضي الى العدالة. وهذا له دلالات مهمة، إذ ان نسبة الدعم للمحكمة الدولية وللعدالة تأتي على رغم معارضة «حزب الله» للمحكمة وتوعّده لقراراتها. اللافت أيضاً هو ما كشف عنه الاستطلاع من أن انتقادات اللبنانيين لهجوم «حزب الله» على المحكمة الدولية رافقتها خيبة أمل وسقوط أوهام الثقة بالحكومة اللبنانية، فلقد عكس الاستطلاع عدم الرضى على رئيس الحكومة الحالي سعد الحريري. وعلى رغم أن 63 في المئة وصفوه بأنه محبوب شخصياً، قال 36 في المئة فقط إنه يقوم بمهماته جيداً، بينما البقية قالت إنها غير راضية عن أدائه. ولو أُجريت انتخابات جديدة اليوم لنالت قوى 14 آذار التي يقودها سعد الحريري مجرد 29 في المئة من الأصوات، بحسب الاستطلاع الذي لم يقتصر على الرأي العام في لبنان وإنما شمل فلسطين وإسرائيل وأتى بدوره بمفاجآت لافتة. من أبرزها، أن ثلثي الفلسطينيين أبدوا ثقتهم بكل من الرئيس محمود عباس ورئيس الوزراء سلام فياض، ليس فقط في الضفة الغربية وإنما ايضاً في غزة، وأن الفلسطينيين أقل تشاؤماً بمستقبلهم من اللبنانيين. الإسرائيليون ازدادوا محبة برئيس وزرائهم بنيامين نتانياهو في أعقاب حادثة السفن الإنسانية المتوجهة الى غزة، والتي أتت على إسرائيل بالإدانة الدولية بعدما قُتِلَ مدنيون على متن السفينة التي اقتحمتها القوات الإسرائيلية وقتلت 9 من ناشطيها. اللافت أيضاً أن الاسرائيليين يعارضون «مبادرة السلام العربية»، التي تقدم الاعتراف التام والتعايش مع إسرائيل مقابل انسحابها من الأراضي المحتلة الى حدود 1967، لأن معظمهم لم يطلع عليها ويجهل ما تقدمه الى الإسرائيليين، بحسب قول كريغ تشارني، الذي أشرف على استطلاع للرأي الفلسطيني واللبناني والإسرائيلي، ووجد فيه المفاجآت. إنما المفاجأة الكبرى أتت في تقرير «مجموعة الأزمات»، بسبب انحيازه وانتقاصه من العدالة جهراً وعلناً. الرئيسة الجديدة ل «مجموعة الأزمات الدولية» هي الكندية لويز آربور، التي سبق وتوّلت مهمات الادعاء العام في المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة وخلفها سيرج براميرتز، الذي سبق وترأس لجنة التحقيق الدولية في اغتيال رفيق الحريري. آربور سبق وتوّلت أيضاً منصب المفوّض العام لحقوق الإنسان. أن تصادق لويز آربور على التقرير الذي أعدّه بيتر هارلنغ من دمشق، داعياً الى الرضوخ لتهديدات «حزب الله» بذريعة الاهتمام بإنقاذ لبنان، إنما يضع آربور تحت المجهر ويسلط عليها أضواء الريبة، فالمفترض أن تكون آربور أول من يرفع راية العدالة الدولية ومبدأ عدم الإفلات من العقاب، لكنها في هذا التقرير توقّع على نسف الراية والمبدأ معاً. تبريرها الوحيد هو: ليس هناك خيار آخر. مَن نصّبَ «مجموعة الأزمات» ولياً على مستقبل العالم؟ ومَن وكّلها التحدث باسم الشعوب التي تجهلها، أو على الأقل تجهل ما تريد نسبة 60 في المئة منها؟ لقد عانت «مجموعة الأزمات» أكثر من مرة في السنوات القليلة الماضية من تقارير تميّزت بالتحيز لمصلحة «حماس» على حساب السلطة الفلسطينية، ولمصلحة «حزب الله» على حساب الدولة اللبنانية، ولمصلحة سورية بصورة نمطية قد يكون سببها الأساس هو اتخاذ بيتر هارلنغ دمشق مقراً دائماً له، ليخبرنا دوماً عن انحيازه. هذه المرة، تعدى هارلنغ ومعه مالي وآربور الانحياز وأصدروا تقريراً متحاملاً ومنحازاً وأيضاً جاهلاً باللبنانيين - أو نصفهم على الأقل - ومهيناً لهم. فحتى في فقرته الأولى، يتعامل التقرير مع أحداث 7 ايار (مايو) عام 2008، عندما وجّه «حزب الله» سلاحه ضد الداخل اللبناني وسعى وراء السيطرة العسكرية على بيروت، وكأنها مجرد واحدة من عمليات اعتراض عادية في الشارع. هذا التحريف خطير جداً، وهو يشكّل تزويراً للتاريخ. ثم إن التقرير مليء بلغة تستخدمها المعارضة في لبنان، اذ يستخدم مثلاً تعبير»الأكثرية المزعومة»، تماماً كما تنص لغة «حزب الله»، وأقطاب المعارضة الآخرون. في الملخص التنفيذي للتقرير تجاوزات يجب أن تكون مرفوضة لدى أمثال لويز آربور بالذات، فالمحكمة الدولية لم تصدر أحكامها، لا بإدانة «حزب الله» ولا بتبرئة سورية. إلا أن التقرير يتحدث وكأنه بيان صحافي لدمشق، إذ يتضمن استباق قرارات المحكمة وشبه تخوين لمن سبق ووجّه اصبع الاتهام الى سورية. زعم التقرير، مثلاً، أن لاعبين لبنانيين ودوليين «تلاقوا حول عملية قضائية محددة بدقة تستند الى الافتراض بأن سورية مذنبة وأنه يمكن إثبات إدانتها من دون أي شك»، واستنتج أن «استثمار مثل تلك الآمال العريضة في التحقيق كان ظالماً الى حد ما، ومفرطاً في التفاؤل أيضاً. ولقد استندت تلك الآمال الى سلسلة من سوء التقدير لموازين القوى الفعلية في لبنان ولقدرة سورية على تحمل الضغوط والعزلة»... ثم يضيف التقرير أن «سورية انسحبت من لبنان ولم تعد تعاني العزلة كما في السابق، بل اصبحت دمشق تجذب تودد أطراف مختلفة، منها فرنسا بشكل خاص، والولايات المتحدة بشكل أقل». هذا كلام استباقي للمحكمة، وسياسي بامتياز. الأسوأ منه هو ما تقترحه «مجموعة الأزمات» لجهة الرضوخ لتهديدات «حزب الله» بصفقات مذهلة، تكرس الإفلات من العقاب وتقطع الطريق على العدالة، وتوحي للاعبين المحليين بأفكار ومقترحات للتلاعب بعمل المحكمة الدولية ولزجّ لبنان في دهاليز تقوّض سيادته واحترامه ومستقبله في مجلس الأمن الدولي. فلقد تحدث تقرير هارلنغ - مالي الذي صادقت عليه لويز آربور عن «صفقة لن تكون مُحكمة، كما أنها لن تكون جميلة»، قوامها سيناريوهات على نسق الآتي: «أن يطلب لبنان من مجلس الأمن أن يوقف عمل المحكمة الخاصة بلبنان حالما يصدر القرار الظني الاتهامي (ضد عناصر «حزب الله») حفاظاً على الاستقرار الداخلي». أو أن «يقرن» لبنان «التعاون» مع المحكمة باتخاذها لبعض الخطوات، «على سبيل المثال، التخلي عن خيار المحاكمة الغيابية والموافقة على النظر في ما يسمى بشهود الزور». أو أن يستمر تعاون لبنان مع المحكمة، يرافقه «تعبير لبنان عن شكوك جدية بالأساس الذي بُنيَت عليه النتائج»، على أن يترافق ذلك مع «توافق يسمح لرئيس الوزراء بالحكم بشكل أكثر فعالية»، وهو الأمر الذي مُنِع من القيام به بشكل منهجي. هذا كلام سياسي كُلِّفت بالتحدث به «مجوعة الأزمات الدولية» من حيث مقر بيتر هارلنغ، فيما كان الأجدى بها أن تحافظ على بعضٍ من صدقيتها، وأن لا تدخل في دهاليز صفقات السياسيين على حساب العدالة ومبدأ إنهاء الإفلات من العقاب، وهو بالمناسبة يلاقي سخرية التقرير. فالمطلوب ليس تمكين سعد الحريري من أن يحكم بصورة أكثر فعالية مقابل إجهاض العدالة، بالمحاسبة على اغتيالات سياسية ستتكرر إذا ما اُبرِمَت الصفقات التي تسوّقها «مجموعة الأزمات»، التي تناست أن 34 اغتيالاً سياسياً وقعت في لبنان منذ اغتيال رفيق الحريري وليس فقط والد رئيس الوزراء الحالي، ففي المعادلة المطروحة إهانة ليس فقط للبنانيين وللعدالة الدولية ولمجلس الأمن وللمحكمة الخاصة، وإنما أيضاً لسعد الحريري نفسه ولشهداء الاغتيالات السياسية. فلتطّلع لويز آربور على نتيجة استطلاع الراي الذي قامت به «مؤسسة السلام الدولي» لتتعرف حقاً الى ماذا يدور في أذهان اللبنانيين، قبل أن تفترض ورفاقها أن مصلحة الاستقرار في لبنان تكمن في الرضوخ لتهديدات «حزب الله»، أو العمل بنهج الحنكة السورية في وسائل وسبل الرضوخ والإخضاع، فدمشق تتصرف بما هو في مصلحتها، إنما هناك شبهات كبيرة اليوم حول ما هي مصلحة «مجموعة الأزمات الدولية» في تسويق سيناريوهات القفز على العدالة والمحكمة الدولية ومبدأ الإفلات من العقاب.