«ابن بابل» عنوان الفيلم الذي أخرجه المخرج العراقي محمد الدراجي عام 2009 وعرض في «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي» في دورته الأخيرة 2010. يشير عنوان الفيلم إلى كل إنسان عراقي باعتباره ابن الحضارة البابلية. وبالربط بين العنوان بهذه الدلالة العامة وأحداث قصة الفيلم الخاصة بالبحث عن أب عراقي مفقود منذ حرب الخليج الثانية 1991، ندرك الدلالة الأعمق لهذه الأحداث التي تدين صدام حسين بما أصاب كل عراقي «ابن بابل» من ضياع وليس إبراهيم فقط المفقود الذي تبحث عنه أمه من دون جدوى بصحبة حفيدها أحمد ابن إبراهيم. الأم وفي رحلة بحثها تقطع العراق من الشمال إلى الجنوب باستخدام الأتوبيسات العامة التي تلتقي فيها آخرين، وتمر على بعض الأماكن وبعض المقابر الجماعية التي تم الكشف عنها في أعقاب سقوط نظام صدام حسين على يد الغزو الأميركي 2003. يبدو الفيلم كقصيدة شعرية بالصور السينمائية منذ بداية مشاهده الأولى في جبال كوردستان في الشمال حيث تبدأ الرحلة، وتتحول القصيدة من خلال الرحلة إلى مرثية للابن المفقود الذي تبحث عنه الأم. يخلق حالاً عاطفية على المستوى الفردي مع الأم كما يخلق حالاً عاطفية على المستوى الإنساني عامة ضد الاضطهاد والديكتاتورية التي مارسها صدام حسين كنموذج بشع للممارسات الديكتاتورية. خلال الرحلة تلتقي الجدة/ الأم موسى الذي يقدم لها بعض المساعدات في البحث عن إبراهيم طلباً للاستغفار عن جريمة مشاركته في قتل الأبرياء أيام أن كان جندياً في الحرس الجمهوري لصدام حسين. الجدة وإن كان يصدمها اعترافه إلا أنها في النهاية تغفر له ما ارتكبه في الفترة التي سلبت منه إرادته. إيقاع الفيلم البطيء يدعو إلى التأمل ويحترم مشاعر الأسى التي تغلف الأحداث، ويؤكد مع تكوين الصورة الجمالي للجبال والنساء بثيابهن السوداء والإنسان الضائع وسط المساحات الواسعة بين الرمال في تكوينات تذكرنا بطيف تكوينات فيلم «المومياء»، يؤكد شاعرية الفيلم المأسوية التي يدعمها بعض مقاطع غنائية كردية لسنا في حاجة إلى ترجمة ألفاظها، فألحانها تكفي للتعبير عما تحمله من شجن نبيل. الفيلم يثير ثلاث قضايا تستحق المناقشة؛ أولها: استخدام شخصيات من الواقع لتقديم أدوار تمثيلية قريبة منهم. وثانيها: اختيار الموضوع. وثالثها: الإنتاج المشترك. فالفيلم لا يعتمد على ممثلين محترفين بل يختار لأداء دور الجدة الرئيسي شخصية امرأة تتماس سيرتها الذاتية مع أحداث الفيلم، إذ فقدت هي الأخرى في الواقع أحد أقربائها المقربين إليها. وهو ما جعلها تبكي وتخرج عن النص في بعض المشاهد التي تدور في المقابر الجماعية على حد قول المخرج. ويحدث كثيراً عند مناقشة هذه النقطة ترحيب المشاهدين وبعض النقاد بهذا الاتجاه لاستخدام غير الممثلين. وهو ترحيب، في رأيي، ليس له ما يبرره في شكل مطلق لأن التمثيل مهنة، وإذا نجحت شخصية عادية في أداء دور ما فهذا لا يعني أن استخدام الممثل في هذا الدور يكون أقل كفاءة. فالتمثيل مهنة يجيدها الممثل ومن المفضل بداهة استخدام الممثل المحترف إلا في حالات استثنائية، وفي أحيان كثيرة تكون هذه الحالات لأسباب اقتصادية وليست منهجية. وفي الندوة التي أعقبت عرض الفيلم في «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي» في دورته الأخيرة 2010، أخذ بعض المتحدثين عن الفيلم تأثيره النقدي الحاد لنظام صدام حسين من خلال إثارة موضوع المقابر الجماعية التي حفرها صدام حسين لمعارضيه وكان من بين المحتجين ناقد أغضبه بشدة انتقاد نظام صدام حسين وإغفال ما ارتكبه الأميركيون أثناء وبعد غزوهم العراق، وأعتبر ذلك تغييباً للوعي عما فعله ويفعله الأميركيون. غير أن الفيلم باعتباره مرثية سينمائية شعرية وما أثاره في النفوس من مشاعر نبيلة بتعاطفه مع الجدة واستهجانه لما حدث للأبرياء من أصحاب رفات المقابر الجماعية، يقدم لنا حالة شعورية مفعمة بالحزن النبيل نجح في رصدها، كما نجح بتقنيته السينمائية الإبداعية في تحقيق التأثير المطلوب منها. وليس من حق المتفرج أو الناقد أن يفرض على الفنان الموضوع أو الطريقة التي يعالجه بها. وكنت أظن أن مثل هذه المسألة قد تم حسمها في ثقافتنا من قبل، على الأقل منذ أن تورط كل من محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس في كتابهما «في الثقافة المصرية» 1955، بانتقاد نجيب محفوظ باعتباره المعبر عن البرجوازية الذي لا يكتب عن الطبقات الكادحة من الفلاحين أو العمال. ثم تراجع الناقدان الكبيران وقدم محمود أمين العالم بعد عقد ونصف العقد ما يشبه الاعتذار الطويل في كتابه «تأملات في عالم نجيب محفوظ» (1970)، يشيد فيه بأعمال نجيب محفوظ وبنائها الفني بعد أن سلم بأن الفنان (أو الأديب) من حقه اختيار الموضوع الذي يتناوله. المهم أن يعبر عنه بصدق عن معرفة حقيقية وفهم عميق. أما عن قضية الإنتاج المشترك التي يثيرها الفيلم بقوة حيث اشترك في إنتاجه سبع دول، فقد أخذ أحد المتحدثين في الندوة المذكورة على المخرج كلامه بأنه لاقى صعوبات كثيرة في إنتاجه للفيلم، وهو ما يتناقض في رأيه مع كثرة المشاركين في إنتاجه الذين وفروا بالطبع موازنة مريحة للإنتاج. ولم يخطر ببال الناقد أن كثرة المشاركين في الإنتاج تعني على العكس تعثر المخرج في وجود منتج واحد يمكنه أن يمول فيلمه ويغنيه عن محاولة إقناع آخرين بالمشاركة. ولا شك في أن اشتراك أكثر من جهة في الإنتاج يعني بالنسبة للمخرج مصاعب أكثر. وترتبط فكرة الإنتاج المشترك في بعض الأذهان بالخضوع لشروط المنتج الأجنبي (الاستعماري في نظرهم أحياناً)؛ ما ينزع البراءة عن اختيار المخرج للموضوع أو معالجته له. وكأن الآخر الأجنبي في نظرهم هو عدو دائم يتربص ويتآمر على المخرج. لماذا لا ننظر إلى الأمر باعتباره مصلحة مشتركة؟ وتتمثل مصلحة المنتج الأجنبي - إلى جانب إمكانية استثمار العمل تجارياً - في التواجد الثقافي الذي يسعى إليه لدى الطرف الآخر، بينما تتمثل مصلحة المخرج في الحصول على التمويل أو نسبة منه بالإضافة إلى النفوذ إلى ثقافة الآخر.