اليوم يبلغ «تلفزيون لبنان» عامه الخمسين. اليوم يجتمع المحبّون للاحتفال باليوبيل الذهبي لتأسيس أول تلفزيون في الشرق الأوسط. ولكن هل يمكن استعمال فعل «يحتفل»؟ أليس الاحتفال فرصةً لينسى الإنسان همومه ويركّز تفكيره على الأمور المفرحة، ولكي يفرّغ ما يُتعب فكره بواسطة الضحك والسرور؟ قد لا يمكن القول انّ محبّي «تلفزيون لبنان» والعاملين فيه يحتفلون بهذا العيد، بل إنّهم يقفون وقفة تأمّلٍ بماضٍ عريق وفي قلوبهم غصّة، وفي عيونهم دموع تحاول ألاّ تتدحرج فوق الخدود؛ دموع فرح بالذكريات القديمة، «وهيهات أن تعود تلك الأيام»، ودموع قهر وحزن على مستقبل خائف ومخيف، وكأنّ تلك الشاشة التي كانت نبض الحياة بدأت تفارق الحياة! المحطة التي تعبت وسهرت لأجل إسعاد أولادها اللبنانيين يبدو أنّ فرحتها لم تكتمل لأنّ أولادها تخلّوا عنها حين بدأت مظاهر العجز تظهر عليها، فتركوها ولحقوا الشاشات التي تبهر العيون بالألوان المفرقعة. يبدو أنّ عيون المشاهدين لم تعد تقتنع بالأبيض والأسود، ولا بالألوان الباهتة، بل صارت تحتاج إلى الإضاءة الساحرة وإلى البهرجة. ولكن هل يمكن لومهم؟ وإلى متى الانتظار؟ تقول فيروز في أغنيتها: «مهما تأخر جايي»، ولكن ألم يتأخّر كثيراً ذلك الحل الذي يعيد للمحطة أمجادها؟! منذ مطلع هذا الشهر بدأت الذكريات تُستَعاد خلال البرنامج الصباحي «صباح الخير يا لبنان» عبر استضافة الذين ساهموا في نجاح «تلفزيون لبنان». شخصيات كثيرة حضرت وتذكّرت وتكلّمت، وشخصيات كثيرة سمعت وشاهدت كل شيء من فوق، من مسكنها الجديد الذي انتقلت إليه بعدما فارقت الحياة. اليوم، يوم العيد، سيكون يوماً تلفزيونياً طويلاً يتضمّن مقابلات مع بعض الذين عملوا في المحطة، وسيكون الاعتماد في شكل كبير على الأرشيف. من ناحية أخرى، سيتمّ اليوم أيضاً استقبال عدد من الأشخاص الذين أغنوا المحطة بأعمالهم، وستُُخَصّص لهم حفلة تكريم «متواضعة ولكن محتَرَمة». ولا يخفي المدير العام المساعد للتلفزيون واصف عواضة الغصّة التي يشعر بها محبّو هذا التلفزيون، ويقول انّ المسؤولين عن المحطة «كانوا فكّروا في تنظيم حفلة ضخمة وجدّية، ثمّ ما لبثوا أن تذكّروا حاجتهم إلى كل قرش لصرفه على حاجات المحطة، وبما أنّهم كانوا مصرّين على عدم القبول بمرور العيد من دون احتفال أو استذكار، قرروا أن يكون «على قدّ الحال». في الأعوام الأخيرة الماضية بات اسم «تلفزيون لبنان» مرتبطاً بكلمة «أرشيف»! صحيح أنّ الأرشيف غنّي وهو ثروة ثقافية وفنية لا تقدّر، ولكن ماذا عن المستقبل؟ يجيب واصف عواضة: «المشكلة مالية مئة في المئة وكل ما نحتاجه هو قرار من الدولة». ويشرح أنّ التلفزيون «لا يمكن أن يتطوّر من دون إنتاج، والإنتاج يحتاج إلى موازنة جيّدة، فموازنة المحطة لهذه السنة كانت 220 ألف دولار شهرياً، وهذا المبلغ لا يكفي لشراء نصف مسلسل، فكيف بالحري إن كان على المحطة أن تدفع رواتب 200 موظّف، إضافة إلى المصاريف الكثيرة التي تحتاج إليها محطات الإرسال، والتي تعادل أربعين ألف دولار في الشهر الواحد... انطلاقاً من كل ذلك، لا يبقى أمام تلفزيون لبنان إلاّ الاستفادة من ثروته الوحيدة: أرشيفه». ويوضح عواضة أنّ الخطط لإعادة النهوض بالتلفزيون جاهزة، لافتاً إلى مساعي وزير الإعلام طارق متري من أجل تحسين وضع التلفزيون الرسمي. وكان متري قد حصل على خطّة أعدتها الشركة العالمية «بوز أند تابورايشن» بالتعاون مع المسؤولين في المحطة، وهي في حوزته منذ ثلاثة أشهر، ولكن يبدو أنّ صعوبات كثيرة قد حالت دون عرضها على مجلس الوزراء، يقول عواضة، موضحاً أن التلفزيون ليس أولوية في خطط الدولة اللبنانية. ويشرح ان الخطة «متواضعة لا تحتاج إلى كثير من الأموال، وقد تستطيع في خلال أربع أو خمس سنوات أن تعيد شيئاً من الحياة إلى التلفزيون». ويعترف عواضة بأن لا مجال للمقارنة بين «تلفزيون لبنان» والمحطات الأخرى لأنّ موازنة سنة كاملة في التلفزيون الرسمي لا تتعدى موازنة ثلاثة أو أربعة أسابيع في محطات أخرى مثل «أل بي سي» أو «المستقبل». ولكن على رغم كل ذلك، فإنّ المسؤولين في التلفزيون يناضلون مستعينين «بالقروش القليلة» التي يملكونها، وقد قرر مجلس الإدارة أن يخصص مبلغاً بسيطاً من الموازنة البسيطة التي رُفعِت إلى 380 ألف دولار في الشهر، لبرامج جديدة لا تتطلّب إنتاجاً ضخماً، مع العلم أنّ واصف عواضة يعتبر كل ذلك غير كافٍ للنهوض بالتلفزيون، والحل يكمن في زيادة الإنتاج. وابتداءً من الأحد ستعرض أربع حلقات تحمل عناوين مختلفة يستقبل فيها محمد الساحلي ضيوفاً من التمثيل والإخراج والكتابة والتقديم والصحافة والغناء وغيرها. الحلقة الأولى تحمل عنوان «حجر وبشر»، والثانية «فن وأصول الفن»، والثالثة «رسالة إعلامية»، والرابعة «إلى المستقبل ننطلق». ويحل الكاتب شكري أنيس فاخوري الذي ملأ هواء الشاشة لسنوات عبر مسلسلي «العاصفة تهب مرتين» و«نساء في العاصفة» ضيفاً على تلك الحلقات، وهو قال ل«الحياة» إنّه يعتبر بحزن أنّ «تلفزيون لبنان» عاد إلى الحياة بعد إغلاقه، لكنّه مشلول وهو حالياً ينازع. ويؤكد فاخوري للمشاهدين أنّ «تلفزيون لبنان أُغلِق بقرار سياسي ولن يعود لمجده إلاّ بقرار سياسي، فهو الآن يعيش على الأوكسجين الذي يُعطى له بقنان صغيرة». في النهاية، لا يمكن إلاّ لفت النظر إلى واقع غريب قد يعطي نفحة أمل في ظل أوضاعٍ لا توحي بالأمل، فالغريب أن برامج «تلفزيون لبنان» التي أُعيد عرضها مراراً وتكراراً ما زالت تحظى بنسبةٍ من المشاهدين، أتراه الحنين إلى ذلك الماضي أم هو هروب من بعض الأعمال الحالية التي، على رغم سخاء الإنتاج فيها، لم تستطع منافسة البساطة والعفوية في تلك الأعمال المؤرشفة؟