كانت لحظة فارقة في حياة الإعلاميين في شتى أنحاء العالم، إنها اللحظة التي أتاحت لهم فرصة الوصول إلى كنز من الرسائل الديبلوماسية من دون أن يبذلوا جهداً كبيراً أو تكلفة عالية. مجرد لمسة اصبع كشفت عن كنز الرسائل كما سبق أن فتحت عبارة «افتح يا سمسم» مغارة علي بابا. وعلى رغم فرحة الإعلاميين بما حصلوا عليه وانشغال عامة القراء بقصص تتعلق بشخصيات مشهورة سياسية وغير سياسية، حل قلق شديد بمعظم أوساط المسؤولين عن صنع السياسة الخارجية، وإن كان بعضهم التزم الصمت المطبق أو قام بتمثيل دور غير المهتم، عملاً بقاعدة إذا أهملت الشيء افقدته بعض قيمته وانفض الناس من حوله. بعض آخر استهان بالأمر كله وسخر من اهتمام الإعلام به، وبعض ثالث تفاخر بما نشر مؤكداً أنه يثبت صدق موقفه وشجاعته، فما يقال سراً يطابق ما يقال علناً. وبينما كان الإعلاميون يحتفلون باللحظة الفارقة، كان أكاديميون في فروع كثيرة من العلوم الإنسانية غارقين في جدل حول ما يمكن أن يكون قد أصاب علومهم وتخصصاتهم بالضرر أو النفع من جراء هذا الزلزال. يقول تيموثي غارتون آش ان تسريب البرقيات الديبلوماسية الأميركية حقق حلماً قديماً للمؤرخين. لا يوجد مؤرخ لم يحلم يوماً بأن تقع بين أيديه وثائق هي المصدر الأول لمعلومات حول أي موضوع يشتغل عليه. فالوثيقة الديبلوماسية يفترض أنها تنقل حرفياً ما يقترب من أن يكون مقابلة كان يتمنى المؤرخ أن يجريها بنفسه. هذه الوثائق حيوية إما لتدقيق معلومة لديه أو لزيادة صدقية معلومات توصل إليها من طريق مصادر ثانوية أو صدقية تحليلات نتيجة اجتهاد شخصي. يقول جون ويسترين الأستاذ بجامعة ماساتشوسيتس في آمهرست إن المؤرخين وعلماء السياسة جاءتهم فرصة نادرة للقيام بقفزات إلى بعيد وعدم انتظار الإفراج عن وثائق ما زالت تخضع لحظر النشر. هم الآن يستطيعون نشر بحوث ودراسات كانت في انتظار ما يؤكد ما ورد فيها أو ينفيه، وبعضها كان لا بد من أن ينتظر خمسة وعشرين عاماً ليرفع الحظر عن وثائق تؤكد أو تنفي. إنه منجم ذهب عثر عليه علماء العلاقات الدولية وخبراؤها بالصدفة ومن دون تدبير سابق، وبخاصة هؤلاء الذين استثيرت غرائزهم الأكاديمية وصاروا يشتهون المزيد قبل أن ينفض حفل الشفافية. لقد عاش معظم المؤرخين وخبراء السياسة وبخاصة المتخصصون في العلاقات الديبلوماسية حياتهم في انتظار ما سوف تنشره الدوائر الحكومية من وثائق، مقتنعين بأن المسؤول السياسي قد يكذب في تصريح لصحيفة أو قناة فضائية ولكنه في الغالب لن يكذب في وثيقة اطمأن مقدماً إلى أنها لن ترى النور في حياته، وقد لا تنشر على الإطلاق. من منا لا يريد أن يطلع على نص ما دار بين مبعوث من رسل الفراعنة إلى ملوك المشرق وأمرائه وما حملوه قبل عشرين قرناً من رسائل سلام ورسائل حرب ومساع لتشكيل الأحلاف وعقد المصاهرات؟ ومن منا لا يريد قراءة نصوص المقابلات بين قادة العرب وبخاصة بعد أن اطلعنا على النذر اليسير مما دار بين بعضهم من ناحية ومبعوثي الولاياتالمتحدة في العواصم العربية من ناحية أخرى؟ أجريت اتصالات وقرأت تعليقات ووجدت أن بين الأكاديميين كثيرين منبهرين بالوثائق المتسربة ولكن يخشون من هذه التسريبات على مستقبل تخصصهم. يقول بعض هؤلاء أن التسريبات ستجعل مهمة المؤرخين وعلماء العلاقات الدولية أشد تعقيداً، فالحكومات ستضع عقبات أمام الباحثين عن الحقيقة، وستعلي بعض درجات السرية. ولكن لم يصرح أكاديمي واحد بأن هذه التسريبات ستجعل كل مؤرخ أو خبير سياسي أشد حرصاً في التقصي والبحث وستجعله، وهو الأهم، متردداً في إعلان اجتهاداته ونشرها على نطاق واسع خوفاً من أن يصدر تسريب يكشف عن أخطاء في هذه الاجتهادات ومدى ابتعاده عن الحقيقة. مثال على ذلك ما نشر في أحد التسريبات عن علاقة الصين بالكوريتين. إذ بدا التناقض واضحاً بين ما يكتبه خبراء في شؤون شرق آسيا وما نشره موقع «ويكيليكس». طرف يقول إن بكين تريد أن تتخلى عن حكومة كوريا الشمالية وطرف يعتقد أن الوقائع تنطق بعكس ذلك. فالصين لم تتخذ موقفاً حاداً من إغراق كوريا الشمالية لسفينة حربية تابعة لكوريا الجنوبية في آذار (مارس) الماضي ولم تنفعل بشدة لبناء مفاعل نووي جديد في كوريا الشمالية، ولم تبد رأياً حاسماً في المسؤولية وراء التراشق بالمدافع بين الكوريتين وقصف كوريا الشمالية لجزيرة مختلف على تبعيتها وتقع على الحدود بين الكوريتين. أعرب بعض خبراء السياسة الدولية وكذلك خبراء في التوثيق عن ثقتهم في أن تسريبات «ويكيليكس» لن تحقق أمل المشرفين على الموقع في أن تكون هذه التسريبات الوسيلة المثلى لتسود حالة من الشفافية على العلاقات بين الدول، فيختفي من السياسة الدولية عنصر التآمر المختفي تحت ذريعة السرية وتضطر الحكومات إلى ممارسة الديموقراطية في رسم وتنفيذ السياسة الخارجية، وهكذا تقل فرص نشوب الحروب والنزاعات الدولية. يذهب رأي بعض هؤلاء إلى أنه يخطئ من يظن أن الحكومات ستستسلم وتتنازل في مبدأ السرية، فالسرية مصدر مهم من مصادر قوتها وهيمنتها ومبرر قوي لإتخاذ إجراءات تعسفية وقمعية ضد معارضيها في الداخل وخصومها في الخارج. إلا أن هذا الرأي يجد معارضة قوية بين أنصار التسريبات والمتخصصين في تكنولوجيا الاتصالات الالكترونية والمهتمين بمستقبل «العالم الرقمي». يقول هؤلاء الأنصار إن السرية هي العائق الأكبر أمام الباحثين وليس ما فعله موقع التسريبات فالسرية مستمرة وستستمر. ولم تكن مفاجئة لنا توقعات الكثير من الخبراء الذين اتصلنا بهم وأهمها: 1- أن تزداد شروط السرية المقررة على الرسائل الديبلوماسية ووثائق الحكومات عامة. 2- أن يزداد عدد الأجهزة الحكومية التي تحاط أوراقها بالتعتيم وتمتنع عن كشفها للباحثين وعامة الناس. 3- أن يقل عدد الموظفين الحكوميين المسموح لهم بالاطلاع على الأوراق السرية. 4- أن يتعرض عدد أكبر من المسؤولين المسموح لهم بالاطلاع على مستندات رسمية لرقابة أمنية مشددة وربما تتعرض حياتهم الخاصة للتدخل والتجسس. 5- أن تلجأ الأجهزة الحكومية، مثل وزارتي الخارجية والدفاع، إلى استخدام أوسع لوسائل اتصال بديلة مثل الهاتف، بكل ما يمثله من صعوبات كالوقت الذي تستهلكه المراسلة وجلاء الصوت، وفي كل الأحوال فإنه لو حدث هذا التحول إلى الهاتف لكان أول الخاسرين هم الباحثون الأكاديميون وخبراء التوثيق. 6- أن تقوم دول كثيرة وفي مقدمها الولاياتالمتحدة بتعديل قوانين حرية الحصول على المعلومات. لا يخفى على كل حال أن الوثائق الديبلوماسية لا تمثل سوى جانب واحد وغير جوهري في عملية صنع القرار والسياسة الخارجية. هناك مصادر أخرى لا تقل أهمية مثل وثائق أجهزة الاستخبارات وتقارير وزارات الداخلية ومباحث أمن الدولة ووكالات التحقيقات الفيديرالية والأمن القومي ومستشاري الرؤساء والملوك، فكل هذه الأجهزة تشارك في عملية التخطيط للسياسة الخارجية وصنع القرار. بمعنى آخر، لن تكتمل سعادة المؤرخين وعلماء العلاقات الدولية إلا إذا انكشفت تقارير الأجهزة الأخرى وهو ما لن تسمح بوقوعه الحكومات كافة. لفت نظري أحد المعلقين إلى أنه لا يجوز أن نغفل حقيقة أن كل أكاديمي من هؤلاء الأكاديميين المتحمسين لمبدأ الشفافية والديموقراطية وحق الاطلاع على الوثائق، كان هو نفسه يحاول جاهداً التكتم على أي وثيقة تقع بين يديه ويرفض مشاركة باحثين آخرين فيها قبل أن يستخدمها بنفسه ولنفسه. هذا الشخص وغيره لا يحترم الشفافية بالقدر الذي يعلنه في دفاعه عن أسانج وموقع التسريبات. ولا يخفى أيضاً أن أسانج نفسه رفض الاعلان عن أسماء معاونيه الذي ساعدوه في الحصول على المراسلات ونشرها. * كاتب مصري