«أكثر مياه البلد من الآبار، وهي ثقيلة غير مروية، وإنما صرفهم الى شربها رغبة عن شرب الماء الجاري العذب (الذي يجري حول بلدتهم)، قلة مروءاتهم وكثرة اكلهم البصل وفساد حواسهم لكثرة تغذّيهم بالنيّء منه، وما فيهم من لا يأكله في كل يوم. وفيها أزيد من ثلاثمئة معلم يؤدبون الصبيان. وهم يرون انهم افضلهم وأجلهم، وأنهم أهل الله وهم شهودهم وأمناؤهم، هذا على ما اشتهر عن المعلمين من نقص عقولهم. وإنما لجأوا الى هذه الصناعة هرباً من الجهاد ونكوصاً عن الحرب». من نظرة أولى قد يبدو هذا الكلام الذي يرد في فصل خصّه المؤرخ والجغرافي ابن حوقل لأهل باليرمو (صقلية الإيطالية) من المسلمين، طريفاً ذا نزعة اجتماعية ساخرة وكتب على سبيل النقد الاجتماعي الإصلاحي. غير ان الأمر ليس كذلك تماماً. فإبن حوقل، ابن القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، إذا كان عرف بكونه جغرافيّاً مارس عمله ميدانياً، وعرف بقوة ملاحظته، فإنه في الوقت نفسه كان رجل ايديولوجيا من طراز رفيع واستثنائي في ذلك الحين. ونحن إذا كنا لا نعرف الكثير عن ابن حوقل (في مجال حياته الشخصية)، فإننا نعرف على الأقل أنه منذ اعتنق التشيّع وراح يناصر الفاطميين الحاكمين مصر في ذلك الحين، إذ ترك العراق منشأه ومسقط رأسه وبدأ يجول في البلدان، صارت الكتابة بالنسبة اليه وظيفة فكرية سياسية... ولم يعد طلب المعرفة - أو الفضول - دافعه الأساسي لتلك الجولات التي قام بها طوال ثلاثين سنة من حياته، وقادته الى أواسط آسيا، كما الى المغرب والأندلس وشرق أفريقيا، ناهيك بالمناطق الأوروبية التي كانت واقعة تحت الاحتلال الإسلامي (مثل صقلية والأندلس وغيرهما). كان الرجل صاحب موقف سياسي، ومن هنا تلك الدقة والتفاصيل الآنية والحيوية التي تطغى على كتاباته ولا سيما على كتابه الأساسي «المسالك والممالك» أو «صورة الأرض» الذي اشتغل عليه طوال حياته، وأعاد صياغته ثلاث مرات على الأقل (مرة قبل العام 356 وأخرى في العام 367، وثالثة أخيرة حوالى العام 378). وهذا الأمر الأخير يشي طبعاً بهدف ابن حوقل وغايته السياسية، فهو، إذ راح في كل مرة يطوّر كتابه ويعدله ويضيف اليه على ضوء ما يستجد من معلومات وملاحظات كان يعايشها ميدانياً، كان من الواضح أنه انما يبتغي من كتابه أن يكون أشبه بتقرير رجل استخبارات يدرس «أراضي العدو» ويورد تفاصيل ما يحدث فيها، بالوقائع والأرقام، لأنه يريد ان يرسم لتلك الأراضي صورة واضحة. لماذا؟ عن هذا السؤال يجيبنا الدكتور شوقي ضيف قائلاً: ان ابن حوقل، إذ تشيّع للفاطميين وناصرهم، تحول داعية لهم واتجه بكتابه «المسالك والممالك» هذه الوجهة السياسية. ويتضح ذلك في حديثه عن البلاد التي كان يهم الفاطميين ان يستولوا عليها، مثل الأندلس وصقلية، حيث من الواضح ان ما يهمه من خلال وصفه لهاتين المنطقتين في شكل خاص هو «ان يشير الى غناها وخصب أراضيها وعظم جبايتها، كما يشير الى ضعفها الحربي»، مؤكداً، في سياق حديثه ان «من السهل أن يفتحها الفاطميون فتتحول هذه الديار الى ملكهم وتلك الأموال الى خزائنهم». والحال انه حسبنا للتيقن من هذا أن نقرأ ما كتبه، مثلاً، عن الأندلس حيث يقول: «الأندلس جزيرة كبيرة فيها عامر وغامر(...) ويغلب عليها المياه الجارية والشجر والثمر والرخص والسعة في الأحوال من الرقيق الفاخر والخصب الظاهر الى أسباب التملك الفاشية في أكثرهم ولما هم به من رغد العيش وسعته وكثرته(...). ومما يدل بالقليل منه على كثيره ان سكة دار ضربه على الدنانير والدراهم ضريبتها كل سنة مئتا ألف دينار... هذا الى صداقات البلد وجباياته وأعشاره وضماناته ومراصده والأموال المرسومة على المراكب الصادرة والواردة والجوالي والرسوم على بيوع الأسواق. ومن أعاجيب أحوال هذه الجزيرة بقاؤها على من هي في يده مع صغر أحلام أهلها وضعة نفوسهم ونقص عقولهم وبعدهم من البأس والشجاعة والفروسية والبسالة ولقاء الرجال ومراس الأنداد والأبطال». ومن الواضح هنا أن هذه السطور الأخيرة انما تحمل في طياتها استهانة بشأن الأندلسيين (الواقعين تحت سيطرة الأمويين في ذلك الحين) ما يمكن أن يشكل دعوة واضحة فحواها ان «من السهل ان يفتحها الفاطميون». ويتابع ابن حوقل متحدثاً عن قرطبة عاصمة ملك الأندلس: «وأعظم مدينة بالأندلس قرطبة، وليس بجمع المغرب عندي لها شبيه في كثرة أهل وسعة رقعة وفسحة أسواق ونظافة محال وعمارة مساجد وكثرة حمامات وفنادق(...) وإن لم يكن لها في عيون كثير من الناس حسن بارع، فليس لجيوشهم حلاوة في العين، ولا علم بقوانين الفروسية وقوانينها ولا بالشجاعة وطرقها. وأكثر ظفر جيوشهم في القتال بالكيد. ومما يدل على ذلك أني لم أر قط بها أحداً أجرى على فرس فاره أو برذون هجين ورجلاه في الركب، ولا يستطيعون ذلك ولا بلغني عن أحدهم، وكل ذلك لخوفهم من السقوط الى فشل فيهم عند لقائهم...». ان مثل هذا الشرح والتأكيد يرد بوفرة لدى ابن حوقل، ولا سيما في تلك الأجزاء من كتابه التي يكرسها لمناطق كان يرى، هو، في ذلك الحين أن من الممكن للفاطميين الاستيلاء عليها. ومن هنا تتسم معظم كتابة ابن حوقل بواقعية راصدة، ما جعل بعض الباحثين المعاصرين يشبهون كتابته الجغرافية المبكرة، بكتابات أصحاب مدرسة «الحوليات» الفرنسية، ولا سيما في مجال ربطه الوثيق للجغرافيا الصرفة بالاقتصاد، وهو أمر كان يعتبر جديداً في ذلك الحين، حيث ان معظم الجغرافيين العرب، ولا سيما منهم كبيرهم الاصطخري، الذي كان أستاذاً لابن حوقل، وقام جزء كبير من عمل هذا الأخير على تطوير كتابات أستاذه هذا، والاستفاضة في تطويرها، عيانياً واقتصادياً، مستفيداً من أسسها التقليدية، معظم الجغرافيين العرب، كانت كتابة الجغرافيا بالنسبة اليهم وصفاً طوبوغرافياً واهتماماً بالحياة الدينية العلمية للمناطق التي يتحدثون عنها. مع ابن حوقل، صارت الجغرافيا، جغرافيا سياسية واقتصادية بالمعنى الحديث للكلمة. فابن حوقل كان همه الأساس في كتابه أن يرسم لوحة واضحة للمناطق التي يتحدث عنها. واضحة وراهنة أيضاً، بل مطورة ومعدلة على ضوء التغيرات كما أسلفنا. ما يهمه في الأساس كان «هنا» و «الآن»، ما يعني ان الملاحظات الاقتصادية التي كان يدونها، بعد معايشته اياها، كانت توفر له الحقل المعرفي المثالي لهذا النمط من التحليل. ابن حوقل كان يرجح المعلومات والمشاهدات في اطار عام، تتخذ فيه ملاحظاته حول الزراعة والصناعة وأحوال المال والتجارة، مكانة أساسية في الصورة التي يرسمها، من دون أن يفوته في معظم الأحيان أن يرسم الخلفية التاريخية - والتحليلية بالتالي - لما يقدم من معلومات، رابطاً الأسباب بالنتائج، ما يجعله في ذلك الحين، واحداً من الجغرافيين العرب والمسلمين القلة - حتى وإن كان المقدسي، معاصره، وتلميذ الاصطخري هو الآخر، يشاركه في بعض نواحي تميزه - الذين اشتغلوا بدقة ووضوح على ما نطلق عليه اليوم اسم «الصيرورة الاقتصادية». وفي هذا الإطار لم يكن غريباً أن يقال عن ابن حوقل دائماً انه «إذ قرأ ما سبقه وعاصره من كتب الجغرافيا، وشغف بهذا العلم، صمم على أن يضع فيه كتاباً كبيراً لا يأخذه من أفواه الناس ولا مما قرأه، وإنما يأخذه عن عينه ومشاهداته في العالم الإسلامي» وهكذا طاف في هذا العالم أكثر من ثلاثين سنة، وعاش سنين عديدة في المناطق الأساسية - المفاتيح، قبل أن يجد الدوافع الحقيقية التي مكنته من وضع كتابه الفريد من نوعه، والذي لن يكون من المغالاة القول انه ينتمي الى عصرنا بقدر ما ينتمي الى عصره. [email protected]