تكتسب علاقة فرنسا بالفن المصري القديم أهمية خاصة تنعكس في مجالات الإبداع المختلفة وتتأكد يوماً بعد يوم. ولا غرابة في ذلك ما دامت فرنسا هي التي اكتشفت من خلال العالم جان فرنسوا شامبليون في القرن التاسع عشر، أسرار اللغة الهيروغليفية ومهّدت لقراءة الحضارة الفرعونية والتعرف إلى فنونها وآدابها. يدفعنا إلى الحديث عن هذا الموضوع إنجاز فني جديد من توقيع المهندسة الفرنسية الشابة ميلين غيرمون Milène Guermont (36 سنة) التي أنجزت عملاً فنياً عنوانه «منارات» يمثل هرماً شفافاً ارتفاعه 29 متراً ويتألّف من أضلع من مادة الألومنيوم. ينطلق هذا الهرم من المبدأ الهندسي الذي نهضت عليه أهرام مصر وما تمثله من علاقة بين الأرض والجو، بين قاعدة مربعة واسعة ونقطة تذوب في الفضاء اللامتناهي. هذا الهرم الجديد الذي عرض في ساحة كونكورد ستة أشهر العام الماضي لم يحجب المسلة الفرعونية القائمة هناك، بل كان إطاراً لها ويدفع إلى التأمل فيها من زاوية جديدة. إنه اقتراح لرؤية مختلفة لهذا الصرح النادر الذي كان من روائع مدينة الأقصر وأهداه حاكم مصر محمد علي إلى فرنسا قبل قرنين. وكانت غيرمون عقدت أخيراً مؤتمراً صحافياً للتحدث عن مشاريعها ومنها إطلاق كتاب نهاية الشهر الجاري بعنوان «منارات، حياتان لمسلة الأقصر» باللغتين الفرنسية والإنكليزية ويروي قصة مغامرة صنع هذا الهرم الحديث بمراحله المختلفة. ولقيت هذه المغامرة دعم السفارة المصرية في باريس ممثلة بالسفير إيهاب بدوي ودعم منظمة اليونيسكو الدولية وبلدية باريس. ويزاوج هذا العمل بين الرؤية الفنية والهندسية ويعتمد على المواد المبتكرة والأكثر حداثة في الهندسة. ولا بد من الإشارة إلى أن هذا الهرم يأتي في سياق أعمال فنية أخرى تجمع بين الهندسة والفن وتتجلى في أعمال عدة في باريس، منها الهرم الزجاجي في متحف اللوفر. تعد غيرمون اليوم بين الفنانين الفرنسيين الطليعيين، تستعمل مواد كثيرة في أعمالها خصوصاً مادة الإسمنت التي تطوعها كعجينة سهلة السبك، لتصوغ من خلالها أشكالاً هندسية تشي بالانسياب والليونة، تلونها وتجعلها أقرب إلى الرخام المنحوت. أكثر من ذلك، تعمل على تضمينها ما يتفاعل مع الحواس، خصوصاً السمعي والبصري منها. فهي تجمع في أعمالها بين آخر منجزات التكنولوجيا وقوة المخيلة الشعرية. وفي هذه الحال لا يعود الإسمنت شيئاً جامداً لأنها تطويه وتضغطه وتجعله يتكلم. ويصدر الاقتراب من هذه المنجزات وملامستها أصواتاً كأنها مسكونة فيها. كما أن المهندسة جعلت داخل مادة الإسمنت نفسها أليافاً بصرية تسمح للضوء بأن يخترق المادة كذرات بصرية تضفي شيئاً من الشفافية عليها. في هذا السياق، حين تمر غيمة أو عصفور أو حتى زائر عابر من أمام تلك الألياف، نرى ظلالاً فوق الجهة الأخرى المضيئة من المنحوتة. إذا كنا نتحدث عن هذه التقنيات المختلفة لعمل هذه الفنانة، فذلك لإجلاء التصوّر الذي يقف وراء الهرم الحديث الذي شاهدناه في ساحة كونكورد واستعملت فيه المقاييس العمودية والأفقية، مركّزة على الضوء الطبيعي وانعكاسه على العناصر التي يتألف منها الهرم، ما يُنتج دينامية بصرية لا نهائية تجسّد العلاقة بين عناصر الطبيعة والتجريد.