نهار مثقوب ... ولما اشتد به الخفقان... كأن قلبك تخترقه سهام من الزرنيخ. استلقيت على الأرض مبتسماً مثل ملاك صغير. ماذا تحتضن أيها الملاك الصغير ممتزجاً بأحلامك ودمك...؟ أغلقت جفنيك... وإذا بك تمشي في دروب أحلامك مأخوذاً بنطف الضوء الراعشة، القريبة والبعيدة، وهي تخفق مثل قلبك. كان الخفقان مثل قطرات الندى تنحدر على هدب وردة يرف، تاركاً العنان لشجوك وطفولتك البراقة يتفجران بكل شيء في هذا الصمت الذي ينقلب إلى صخب مدوٍّ. ها هي روحك الطالعة تزخ... وأمامك كل دياجير نهارك المثقوب. كان أطول نهار مثقوب امتلكه الكون، ولما ضاقت عليك الأرض برحبها، جعلت تهمهم بصوت أسيف: أكان لا بد لي أن أحلم بركوب جواد طائر مع أقراني يحلق بنا فوق السنابل وورد النيل دون عوائق لأستيقط ثم أغفو للأبد مغموراً بمخلفات الجهلاء، وطعنات الشر المستطير. انتظار اكتظت محطتي الريفية لحظة الغروب بالناس والانتظار. انتبذت لنفسها مكاناً قصياً وجلست لامعة في انتظارها، لمعة الندى والدموع. كنت أراقب خجلها ورقتها وقلقها والسلة الفارغة جوارها، اللهم من نصف رغيف وبعض أعواد خضراء لم أتبينها في ركن السلة، وكلما جاءت عيناها في عينيَّ دون قصد، أطرقت بوجهها في الأرض غارقة في انتظارها. فتنتني رقتها الحالمة، وكلما تأملتها دون أن تنتبه، بدت كفراشة ناعسة على ورقة لبلاب. هسهست روحها: مر الصباح، ومر الظهر، وها هي عتمة المساء، لماذا لم تأتِ حتى الآن؟! وهسهست روحي: كل القطارات مرت، وها أنا ذا في قلب الضوء، لم أختبئ بين الظلال، ولم تأت؟! حين اكتظت المحطة بالناس والانتظار من جديد، أعدت قراءة القصيدة رقم 41 في ديوان طاغور «جيتنجالي»: «أين تقف خلفهم جميعاً يا حبيبي/ مختبئاً بين الظلال؟/ ولكن الوقت يمضي/ ولا صوت لعجلات عربتك/ أأنت وحدك الذي تريد أن تقف في الظلال صامتاً/ متوارياً خلفهم جميعاً/ وأنا التي يجب أن تنتظر/ وتبكي/ وتذب قلبها في شوق ضائع». صرير القلق في هذا السكون المطبق لا نأمة غير صرير القلق، النور يرحل رويداً رويداً، ولا يبقى منه غير بقعة غبشاء، فيما فراشات الحلم ترف فوق الجسر والترعة وتعلو ترسم أسئلتها في الهواء، ثم تستقر في أغصان روحي، والريح تهس تحكي لليل وقلبي سرها المخبوء. مددت بصري أتأمل النجوم في ضغف، وكأنني أنتظر أن تسقط نجمة في جيب جلبابي... هيهات، فيما روحي الظامي يحلم بوطن بديع ثانية، تنبثق من قلبه الغامض فراديس الحقيقة والحرية والعدل والرحمة والجمال والرقة تضوء في وهج الشمس الفياضة.